بداية لا يمكن مقارنة الانتخابات الأمريكية بمثيلاتها حول العالم، وبعض المقارنات التى تجرى حول نسبة الاقتراع لا تعد مقارنات منصفة
بداية لا يمكن مقارنة الانتخابات الأمريكية بمثيلاتها حول العالم، وبعض المقارنات التى تجرى حول نسبة اقتراع الناخب الأمريكى لا تعد مقارنات منصفة. فعند النظر إلى الانتخابات فى أمريكا نجد هناك انتخابات بلدية، وانتخابات المقاطعات، وانتخابات الولايات، والانتخابات الفيدرالية، والانتخابات الأولية داخل الأحزاب (الجارية حاليا)، ثم الختام بالانتخابات العامة، وفى بعض الحالات الانتخابات الفرعية والانتخابات الخاصة. وهكذا يُطلب من المواطنين الأمريكيين التصويت مرات تفوق بكثير ما هو مطلوب من مواطنى الدول الأخرى، هذا بالإضافة إلى وجود أكثر من 600 ألف وظيفة عامة تقررها الانتخابات فى الولايات المختلفة خاصة فى مجالات القضاة، والشرطة، والمدارس والجامعات الحكومية، ومجالس المرافق العامة كالحدائق والمتنزهات.
تعد انتخابات 2016 الرئاسية من المرات النادرة التى لا تخلو من سعى رئيس لإعادة انتخابه (فترة ثانية) أو من سعى نائب رئيس حالى (جو بايدن فى هذه الحالة) الوصول إلى الرئاسة، وهو ما يجعل من سباق 2016 سباقا مفتوحا بالكامل بصورة قلما تتكرر فى التاريخ الأمريكى. ويرتبط بهذه النقطة حالة ترهل وضعف وعدم ثقة واسعة من المواطنين فى المؤسسات الحزبية القائمة. ويقصد بالمؤسسة الحزبية، والتى يطلق عليها Establishment، شبكة شديدة التعقيد رسمية وغير رسمية تتكون من كبار المسئولين الحاليين والسابقين للحزب، وممثلى الحزب سواء فى الكونجرس أو المناصب التنفيذية، رجال المال والأعمال القريبون من الحزب، المراكز البحثية المرتبطة بالأحزاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأخيرا وسائل الإعلام القريبة من تلك الأحزاب مثل محطة فوكس Fox News القريبة من الجمهوريين، أو محطة إم إس إن بى سى MSNBC القريبة من الديمقراطيين.
***
لم يعد فى وسع المؤسسة الحزبية التحكم فى هوية المرشح المفضل. ومثل انتصار الشاب الأسود والسيناتور الصغير من ولاية إلينوى باراك حسين أوباما على هيلارى كلينتون عام 2008 اهتزازا وصدمة واسعة لتفضيلات المؤسسة الحزبية الديمقراطية التى تتمتع بموارد مالية لا يمكن مقاومتها، ورضخت المؤسسة الحزبية فى النهاية للمرشح الذى فاز بأصوات الناخبين داخل الحزب. من جانبه تعرض الحزب الجمهورى ومؤسساته لصدمة لا تقل عن صدمة الحزب الديمقراطى بظهور حركة حزب الشاى عام 2010 ونجاح الكثيرون ممن نالوا دعمها من المرشحين المحافظين ومنهم السيناتور تيد كروز من تاكساس وماركو روبيو من فلوريدا. وتشهد انتخابات 2016 بين الجمهوريين صعودا صاروخيا للمرشح دونالد ترامب رغم عداء كل مؤسسات الحزب الجمهورى له ولما يمثله. إلا أنه سينال دعم الحزب ومؤسساته حال فوزه بأصوات الناخبين فى الانتخابات التمهيدية. ويجب ألا يفهم من ذلك حتمية الخروج عن الثوابت العريضة للاتجاهات العريضة للحزبين من قبل المرشحين الفائزين.
فى بداية الحملة الانتخابية منتصف عام 2015، اعتقد كثيرون أن الصراع سيتقلص إلى معركة بين هيلارى كلينتون وجيب بوش. ادعوا أنهما لن يواجها أى منافسة حقيقية من ناحية، ولن يقترب منهما أحد فى جذب الأموال لحملتهم الانتخابية، إضافة لوقوف كل مؤسسات الحزب وشبكاته ورائهما. اليوم وبعد تسعة أشهر من بدء الحملات الانتخابية نجد المرشحة الديمقراطية تواجه تحديا جادا ومقلقا من السيناتور بيرنى ساندرز، أما بوش فيتعرض للإذلال عن طريق هزيمة مدوية جعلت منه مرشحا لا يلتفت إليه أحد على الرغم من كل الدعم المؤسسى، ووصل لقمة الجمهوريين مرشح مستفز يعادى مؤسسات الحزب، ومرشحان شديدو التطرف يحسبان أصلا على حركة حزب الشاى المحافظة.
***
دور المال لا يمكن إنكاره أو التقليل منه فى انتخابات 2016، لكن من المهم التذكير بأن أهمية المال تنبع من تمكينه للمرشح أن يتواصل مع المواطنين الناخبين عبر التلفزيون أو الراديو أو إعلانات الطرق أو حتى إعلانات على شبكات التواصل الاجتماعى. من هنا يلعب الإعلام دورا طاغيا فى التأثير على هوية المرشح الفائز. وأظهرت نتائج انتخابات ولاية آيواه، أن المرشحين الخمسة الأوفر حظا لنيل بطاقة حزبهم هم أكثر خمسة مرشحين ذكرا وتكرارا فى وسائل الأعلام المختلفة. عن طريق تحليل بيانات عدة وسائل إعلام أمريكية هامة (بلومبرج، فوكس، سى إن إن، وإم إس أن بى سى، برامج التوك شو الليلية، سى إن بى سى)، كشف مشروع جديد ومعقد GDELT PROJECT لتحليل البيانات الضخمة Big Date، بعد أن جمع وحلل مخازن بيانات وسائل الإعلام المذكورة، أن ذكر وتكرار اسم المرشحين خلال الشهر الأخير جاء كالآتى: ترامب 35040 مرة، كلينتون 15587 مرة، ساندرز 11784 مرة، كروز 8596 مرة، روبيو 6920 مرة.
كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعى دورا متزايدا يكشف عن فاعلية دورها فى التأثير على هوية المرشح الفائز. المرشحون الخمسة الكبار هم أنفسهم أصحاب أكبر عدد من المتابعتين على حسابات تويتر. يبلغ عدد متابعى ترامب 5.9 مليون شخص، وكلينتون 5.2 مليون شخص، فى حين يتابع تيد كروز ما يقل عن 800 ألف شخص، وماركو روبيو أكثر قليلا من مليون شخص. ويبلغ متابعى بيرنى ساندرز 1.2 مليون شخص، ثم يجيئ بعدهم فى الترتيب بقية المرشحين بأرقام أقل كثيرا.
***
يتوقع أن تصل تكلفة الحملات الانتخابية 2016 إلى 11.4 مليار دولار، يذهب منها مليار دولار للإعلان فى وسائل التواصل الاجتماعى، إلا أن الأكثر أهمية هو أن 70% من هذه التكلفة، أو ما يقرب من 8 مليار دولار، ستنفق على إعلانات الراديو والتليفزيون. تظهر دراسات حديثة أن المواطن الأمريكى يشاهد 4.2 دقيقة إعلانات سياسية مدفوعة الثمن مقابل مشاهدته 1.2 دقيقة أخبارا وتغطية للمرشحين. بالطبع يظهر ذلك أهمية الأموال ودورها فى الانتخابات الرئاسية، إلا أن ذلك يظهر أيضا أن أهمية الإعلام تتخطى أهمية الأموال. فمن لديه المال ليس بالضرورة لديه القبول الإعلامى، والمهارات التى يحتاجها التعامل مع إعلام سريع متغير تنافسى لا يخضع لقواعد محددة، ويدل على ذلك الفشل الكبير الذى ناله المرشح الأغنى جيب بوش.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة