مثلما يسمون الطعن فى الثوابت والاستخفاف بالحرمات والتلاعب بالتراث (حرية فكر) فكذلك المتطرفون المتنطعون دينيا يسمون تنطعهم (عقيدة صافية)
التطرف الفكرى ليس حكرا على المتنطعين والمغالين فى دينهم، فهناك بإزائه تطرف ٌمضاد ٌيستعلن به مروجوه بفجاجة تثير مشاعر وحفيظة أى مسلم غيور أو حتى أى عاقل يدرك عاقبة العبث بالثوابت والمقدسات...كُتاب، أشباه مثقفين، فنانون وعشرات سواهم لا يتركون مناسبة إلا وتهجموا على ثوابت الإسلام حقيقة لا مجازا وتصريحا لا تلميحا، وتراهم يستعيضون عن بضاعتهم العلمية المُزجاة الضعيفة ببضاعة من سوء الأدب وتدنى الأخلاق لا يباريهم فيها أحد!
والعنوان الجاهز للاستدعاء دائما هو (حرية الفكر)، كل مغمور بالكاد قرأ كتابين أو ثلاثة يُحسن أن يجعل من نفسه مفكرا ويصنع منه الآخرون بطلا إذا ما طنطن بكلمتين على غرار التنوير والحداثة ومحاربة خفافيش الظلام وإذا ما تحدثنا عن تطرفه الفكرى زعقوا بأعلى الأصوات: (حرية الفكر).
سهل ٌجدا أن تزين حديثك بكلمات ٍعلى غرار «تنوير ــ ثقافة ــ فن ــ تقدم ــ فكر ــ خفافيش الظلام ــ أعداء الحرية ــ إلخ» لتروج على البسطاء تشبعك ثقافة وامتلاكك مشروعا نهضويا أو فكريا.. فإذا ما أنصت المنصف العاقل لكلامك دقائق معدودات أدرك افتقادك للقدرة على سوق المعانى المنطقية أو حتى على الحديث بشكل مرتب وموزون!
وسهل جدا أن تذكر فى طيات حديثك ــ غير المرتب ولا المنطقى ــ أسماء رنانة ــ هكذا أيضا تظنّها ــ على غرار محمد عبده، طه حسين، إلخ فيظن نفس البسطاء أنك قرأت لهؤلاء وسبرت فلسفتهم واستطعت البناء عليها بما يصلح للناس حياتهم.. فإذا ما سألك المنصف العاقل عن أسماء مؤلفات واحد من هؤلاء أو عن رأيه فى قضية بعينها لأدرك من تلعثمك واتساع حدقتى عينك ولفك ودورانك وتطاير همهمات غير مفهومة من بين شفتيك، أنك حتى لم تمر على غلاف كتاب ٍخطّة أحدهم، فضلا عن أن تكون بصيرا بما انتهوا إليه.. أقصد فضلا عن أن تكون ممن يحسن القراءة أصلا!
ومثلما أنهم يسمون الطعن فى الثوابت والاستخفاف بالحرمات والتلاعب بالتراث (حرية فكر) فكذلك المتطرفون المتنطعون دينيا يسمون تنطعهم (عقيدة صافية) و(براءة من الشرك ) و(انتصارا للإسلام)!
سهل جدا وأنت تدعى مواجهة الفكر بالفكر أن تمارس كل مظاهر الإقصاء والعنصرية وفاشية الصوت الواحد وتصادر على كل حق للرد أو النقاش فى نفس الوقت الذى تملأ فيه الدنيا صياحا عن «تعصب» الآخر، و«عنصرية» الآخر، و«فاشية» الآخر، ولا تبصر من نفسك التناقض المذهل، التناقض الفج، التناقض المضحك!
الأسهل من ذلك كله أن تدعى بعد ذلك أنك ضحية للإرهاب الفكرى والفاشية الدينية إذا ما أظهر أحدهم تهافت أفكارك ــ مع ألم شديد يعتصرنى وأنا أصف السُخف بالأفكار تجوزا ــ أو سخر من غرابة ألفاظك وركاكة حديثك ــ مع خجل ينتابى وأنا أصف الحوار السوقى بالحديث تجوزا ــ أو اضطر مرغما مكرها على تفنيد بعض حججك الواهية ــ مع نوبة ضحك تشتملنى وأنا أصف الهراء بالحجج تجوزا أيضا!
نفس (الإرهاب الفكرى) الذى يدعون تأذيهم من جرائه هو الذى يمارسونه ضد من يفضح جهلهم وتحاملهم على (الثوابت) وعدم جاهزيتهم لنقاش علمى محترم وتفصيلى يصطلح به كل فريق على حقه.. ونفس (التطرف الفكرى) الذى يرمون به غيرهم هو الذى تنضح به كتاباتهم وتنطق به على شاشات التلفزيون ألسنتهم.. نفس (الفاشية) التى تدعو إلى حرق الآخر وإخراجه نهائيا من واقع الناس ومستقبلهم هى هى التى نراها فى المعسكر الآخر.. فقط مع تبديل الانتماءات وتغيير العناوين!
إن كان منَّا عقلاء لا يستخفنهم تطرف هؤلاء دينيا ولا الآخرين فكريا، فإن شبابا يافعا لظروف ٍكثيرة لم يكتسب ما اكتسبنا من حصانة يوشك أن ينفجر فى أى لحظة وهو الذى لا يرى أمامه إلا التطاول على دين يحبه ويغار عليه!..
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة