أن الصراعات تمر من المنظور العسكرى بمرحلة تجمد بمعنى عجز أى من أطرافها عن حسم الصراع لمصلحته دون تكلفة عالية لا يملك مقوماتها
تمر الصراعات العربية المحتدمة فى الوقت الراهن بتطورات تستحق المتابعة والتفكير فى دلالاتها، ففى نهاية 2015 راجت لدى بعض المحللين فكرة مؤداها أن هذه الصراعات قد تكون فى طريقها إلى التسوية فى 2016،
ولم تكن هذه الفكرة بغير أساس فقد بدا واضحاً أن الصراعات تمر من المنظور العسكرى بمرحلة تجمد بمعنى عجز أى من أطرافها عن حسم الصراع لمصلحته دون تكلفة عالية لا يملك مقوماتها ولا يستطيع تحملها سواء كانت هذه التكلفة مادية أو معنوية ، كما أن تداعيات تلك الصراعات على الأمن الدولى عامة والأمن الأوروبى خاصة كانت من الوضوح بمكان مع تفاقم خطر إرهاب داعش وأخواتها وتدفق اللاجئين بسبب هذه الصراعات عامة والصراع السورى خاصة على الدول الأوروبية والآثار السلبية الفادحة المتوقعة لهذا التدفق غير المسبوق، وقد كنت من المختلفين مع هذه الفكرة ليس بمعنى أنه لا توجد دوافع حقيقية لتسوية تلك الصراعات وإنما لأنه حتى وإن وجد ما يدفع لتحقيق هذه التسوية فإن عقباتها لا تعد ولا تحصى كما يدرك كل من يعرف تعقيدات الصراعات الراهنة ليس فقط بين أطرافها وإنما داخل كل طرف منها كما يبدو بوضوح فى الصراع السوري.
وبالفعل شهدت الصراعات الثلاثة الأكثر اشتعالاً بدايات لعملية سياسية فى الشهر الأخير من العام المنصرم كما فى المحادثات بين أطراف الصراع اليمنى فى جنيف والاتفاق على مبدأ التفاوض لتسوية الصراع السورى وهو ما ترجم فى المباحثات الأخيرة وإن غير المباشرة بين أطراف الصراع السورى فى جنيف بل لقد تم التوقيع على اتفاق الصخيرات المتعلق بتسوية الصراع الليبى والاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية فى آخر العام أيضاً، غير أن كل هذه الخطوات التى بدت فى حينه مشجعة انتهت إلى لا شئ، فلم تفض المباحثات اليمنية إلى خطوة من أى نوع وحتى الإفراج الذى تم عن بعض الأسرى أنجز بجهود قبلية أساساً، وانتهت المفاوضات السورية قبل أن تبدأ وتعثر تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بموجب اتفاق الصخيرات، وكان هذا كله متوقعاً لأن وجود عوامل تدفع للتسوية لا يعنى أن الطريق إليها باتت ممهدة فالعقبات عديدة ومصالح أطراف الصراعات مازالت شديدة التباين ، غير أن ثمة تطورات قد استجدت بعد الفشل الواضح للخطوات الأولى لمحاولات التسوية وهى أن تقدماً ملحوظاً قد حدث على عدد من جبهات الصراعات العربية للقوات الحكومية، وصفة «الحكومية» هى الأنسب لتفادى إشكالية «الشرعية» بمعنى من يتمتع بها ومن لا يتمتع ، ففى هذه التطورات الجديدة حققت القوات الحكومية تقدماً كانت الحالة السورية أكثر حالاته وضوحاً ويُستدل على هذا أولاً بإجماع تقارير إعلامية دولية من جهات منحازة للمعارضة السورية على تحقيق القوات الحكومية انتصارات ملموسة وثانياً بارتفاع وتيرة صراخ المعارضة من التدخل الروسى وثالثاً بالتقارير التى تفيد بهروب الآلاف من العناصر الإرهابية من سوريا إلى ليبيا، وفى اليمن تحقق القوات الحكومية أيضاً تقدماً مطرداً وإن لم يكن بوضوح الحالة السورية، بل إن هذا التقدم الحكومى على الجبهتين السورية واليمنية قد يكون أحد الأسباب المهمة لفشل الجولة الأولى من المفاوضات على أساس أنه ربما أحيا الأمل فى تغيير ميزان القوى بما ينعكس بالتأكيد على مسار المفاوضات لمصلحة الحكومتين، ويمكننا أن نضيف للمثالين السورى واليمنى الحالة العراقية أيضاً التى بدأ نموذج الصراع فيها يشهد تغيراً لمصلحة القوات الحكومية بعد هزيمة داعش فى الرمادي.
تحتاج التطورات السابقة إلى تفسير دون شك فالنظم التى حققت تقدماً تجاه خصومها فى الآونة الأخيرة عليها مآخذ كثيرة لا يمكن قبولها فكيف يتسنى لها أن تحقق مثل هذه الانتصارات؟ وهل نحن إذن وفقاً لمصطلحات التحليل الماركسى فى مرحلة «النقيض» إذا اعتبرنا الربيع العربى هو «الفكرة»؟ بحيث نكون الآن فى انتظار «الخلاصة»؟ فى الواقع أن المسألة تبدو أعقد من هذا بكثير، ذلك أن ما تواجهه النظم الثلاثة لم يعد «ربيعا» بأى مقياس، فالنظام السورى لا يواجه الآن ثورة شعبية وإنما خليط من تنظيمات أقلها عدداً وأضعفها تأثيراً هى التى يمكن وصفها بالثورية أما الأكثرية الفاعلة القوية فهى تلك التى تندرج بسهولة فى شريحة التنظيمات الإرهابية مع اختلاف فى الدرجة، وبالتالى فإذا كان النظام السورى مسئولاً عن أهوال تواجهها سوريا وشعبها فإن خصومه مدانون بالمسئولية نفسها، وإذا كان النظام السورى قد فقد شعبيته بسبب ممارساته وانغلاقه على مصالح فئات ضيقة من الشعب السورى واعتماده المفرط على الدعم الخارجى فإن خصومه الأقوياء فاقدون هذه الشعبية أيضاً بحكم الفكر المنحرف لمعظمهم وتعبير أغلبيتهم عن مصالح إقليمية ودولية ، وبغض النظر عن المآخذ التى باعدت بين النظام اليمنى وبين جوهر الثورة الشعبية التى تفجرت فى سياق الربيع العربى فإن خصوم النظام من الحوثيين قد انقلبوا على مخرجات الحوار اليمنى الذى يفترض أنه كان محاولة ناجحة لتقنين نتائج الثورة اليمنية فضلاً عن أن حليفهم الرئيسى وهو على عبدالله صالح ونظامه هو النظام الذى تفجرت الثورة ضده ناهيك عن أن الحوثيين هم أصحاب فكر العودة إلى نظام الإمامة المتخلف الذى انقلب عليه الشعب اليمنى منذ أكثر من نصف قرن بغض النظر عن المناورات السياسية التى جعلتهم يدعون الثورية، وفى العراق لم يكن هناك ربيع أصلاً وإنما نظام بغيض للمحاصصة الطائفية يواجه الآن تنظيمات تستخدم بدورها لغة طائفية بشعة تنعكس على ممارساتها الإجرامية.
الخلاصة إذن أن الصراعات العربية المحتدمة الآن لم تعد صراعات بين الثورة وخصومها وإنما صراعات مصالح محلية وإقليمية وعالمية لا علاقة لها بالثورات من قريب أو بعيد ذلك أن وزن «الثوار» فيها إن وجدوا هامشى وصوتهم خافت، وبالتالى فإن المبادئ والطموحات التى تمد الثورات عادة بطاقة لا تفنى حتى النصر غائبة عن المشهد العربى فى الوقت الراهن، وعليه فإن الكلمة باتت للقوة وليست للمبدأ، ونلاحظ فى الحالات الثلاث السابقة لتقدم القوات الحكومية أن ثمة دعماً خارجياً معتبراً لها يُحسِن بالتأكيد وضعها على ميزان القوى مع الاعتراف بأن خصومها يحصلون على دعم خارجى أيضاً، وليس بمقدور أحد فى هذه اللحظة أن يدعى أن التطورات الأخيرة مستدامة أو أنها سوف تفضى إلى انتصار نهائى للأطراف التى حققت تقدماً ملحوظاً بموجبها غير أن النذر واضحة وهى تشير للأسف إلى وفاة الثورة وطموحاتها فى الوطن العربى ولو إلى حين .
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة