هناك ثلاث رسائل أساسية فى لقاءات رئيس الوزراء الدكتور «شريف إسماعيل» المتوالية مع الكتاب ورؤساء تحرير الصحف المصرية
هناك ثلاث رسائل أساسية فى لقاءات رئيس الوزراء الدكتور «شريف إسماعيل» المتوالية مع الكتاب ورؤساء تحرير الصحف المصرية.
الأولى، أن التحديات التى تعترض حكومته تتطلب حجما غير تقليدى فى العمل وحجما غير متوافر فى الإنفاق.
برقم واحد يلخص الأزمة فإن الدين العام وصل (٢.٣) تريليون جنيه، وهو عبء لا يحتمل على موازنة الدولة يستهلك طاقتها فى توفير الخدمات الضرورية للمواطنين وأية مشروعات لإصلاح البنية التحتية التى تحتاج أن تمتد إليها يد الإنفاق.
والثانية، أن ندرك عجز القدرات المالية على تلبية أسقف التوقعات المرتفعة التى يتطلع لها المصريون وأن نواجه الحقيقة.
والثالثة، أن المرحلة المقبلة سوف تشهد إجراءات «صعبة» و«مؤلمة» لتوفير موارد حقيقية للدولة إنقاذا لاقتصادها فلم يعد ممكنا تأجيل تلك الإجراءات أو المقايضة عليها.
الكلام صريح ومباشر عن الإصلاح الاقتصادى وضروراته وتوجهاته الرئيسية وفواتيره واجبة التسديد.
لا يجادل أحد أن مواجهة الحقيقة رغم مرارتها أفضل من خداع النفس واستنزاف الوقت و«الاعتماد على القروض والمساعدات لتسكين الأزمات» كما قال عن حق.
غير أن برنامج الحكومة يطرح سؤالا جوهريا يصعب الإفلات من استحقاقاته الاجتماعية والسياسية والأمنية:
من يدفع فاتورة الإصلاح الاقتصادى؟
بحسب رئيس الوزراء فإن هناك مخططا لرفع الدعم على خمس سنوات يعيد تعريف الفئات المستحقة للدعم.
المعنى أننا بصدد رفع قريب لأسعار الوقود والكهرباء وتقليص آخر للدعم على السلع الرئيسية.
الأفدح أننا أمام فلسفة جديدة فى إدارة الخدمات العامة صلبها أن لكل خدمة مقابلا اقتصاديا لضمان استمرارها.
الرئيس أشار إلى نفس الفلسفة فى آخر لقاءاته.
وهو ما يعنى رفع أسعار المواصلات العامة ومياه الشرب والخدمات الصحية والتعليمية وكل شىء يحصل عليه المواطن العادى بغض النظر عن جودته.
بصورة أخرى فإننا أمام إعادة تعريف لدور الدولة وتقليص جديد لوظائفها الاجتماعية.
دون اجتهاد كبير فإن النتائج سوف تكون وخيمة على أى استقرار فى هذا البلد وعلى مستقبل نظام الحكم كله.
من الناحية الاجتماعية فـ«الإجراءات المؤلمة» تحمل الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا الفواتير كلها بينما تعفى منها رجال الأعمال المتنفذين.
هذا مشروع اضطرابات اجتماعية قد تعيد إلى الأذهان انتفاضة الخبز فى يناير (١٩٧٧) التى نشبت لأسباب أقل بما لا يقاس مما هو مطروح فى برنامج الحكومة من «إجراءات مؤلمة».
من الناحية السياسية فالإجراءات تسحب بقسوة من شعبية الحاضر وشرعيته وتشكك بعمق فى توجهاته الاجتماعية، من هو؟.. وأين يقف؟
ومن الناحية الأمنية فإن مجازفة الإجراءات تضع الشرطة أمام مهمة عسيرة.
لا بوسعها أن تواجه شعبا غاضبا، والاضطرابات المحتملة لا يمكن استبعادها.
ولا بمقدورها أن تخوض معركتين فى وقت واحد، الحرب مع الإرهاب والتصدى لأية انتفاضات اجتماعية.
بكل الحسابات فى بلد منهك فإن مجازفة «الإجراءات المؤلمة» سوف تؤلم نظام الحكم قبل غيره.
لا تكفى حوارات رئيس الحكومة لتهيئة الرأى العام، فالناس لا تقتنع إلا بما هو مقنع.
قيمة أى حوار من مثل هذا النوع فى مدى التنبه لمخاطر الخيارات التى بصدد إعلانها.
رغم صحة المقدمات عن ضرورة مواجهة الحقائق إلا أن الخطط المقترحة تفضى إلى تفجير كل الحقائق.
إذا لم يعترض البرلمان فقد شرعيته الشعبية وأصبحت الكلمة الوحيدة للشوارع الجائعة.
يصعب أن يمر برنامج محمل بكل هذه «الإجراءات المؤلمة» تحت ستار بعض البرامج الاجتماعية وبعض الوعود العامة برفع الدخول والمعاشات أو بالتحايل على بعض المصطلحات مثل «إعادة الهيكلة» و«تحريك الأسعار».
هناك أزمة مصداقية بعد تجربة «قانون الخدمة المدنية»، ادعت الحكومة أنها لن تمس دخول موظفيها بينما عملت على خفضها بنحو (١٧) مليار جنيه.
الكلام عن محدودى الدخل أقرب إلى قنابل دخان لتمرير ما لا يمر وتسويق ما لا يسوق.
الناس مستعدة أن تضحى بقدر ما تتوافر العدالة فى توزيع الأعباء.
للإصلاح ضروراته وللعدل مقتضياته.
لا إصلاح اقتصادىا بلا عدل اجتماعى.
سألت رئيس الوزراء: «أين الضرائب التصاعدية؟»، وهى أداة دستورية معطلة.
قال إنه مقتنع بالضرائب التصاعدية لكنه يخشى من أن يفضى تعديل النظام الضريبى مرة ثالثة إلى هز الثقة فى بيئة الاستثمار.
حجته لها منطقها فى الظروف العادية غير أنه عندما يكون مصير البلد كله على المحك فلابد من الحسم.
هناك اقتراحات أخرى بفرض ضريبة على الثروة لمرة واحدة بقيمة (٥٪) طرحها رجل الأعمال «سميح ساويرس» على الدكتور «حازم الببلاوى» عندما كان رئيسا للحكومة.
بدا أن الدكتور «شريف إسماعيل» على إلمام كامل بالقصة فقد كان وزيرا للبترول فى حكومة ما بعد (٣٠) يونيو.
كما أن هناك ضرورات لحرب حقيقية ضد الفساد لا تتبدى أية بوادر جادة عليها رغم الوعود التى يتضمنها بيان الحكومة المرتقب.
باليقين فإن هناك حاجة ماسة إلى زيادة موارد الدولة غير أن أسهل الحلول اللجوء إلى «الجبايات» أو أن تضع يدك فى جيوب الفقراء دون أن تنظر حولك إلى الثروات الحرام التى تراكمت من زواج السلطة بالثروة.
هناك على سبيل المثال ملف الأراضى المنهوبة.
لا توجد قواعد معلنة وصارمة تطبق على الجميع بلا استثناء ولا تمييز لاستعادة حقوق الدولة، وبعض الاقتصاديين يقدرها بما يتجاوز (٣٠٠) مليار جنيه.
فى مصر نتكلم عن مناخ الاستثمار كأنه مرادف للصمت على الفساد.
فى أية دولة ناهضة فإن من مستلزمات جذب الاستثمارات وتشجيع قطاع الأعمال الخاص وضوح القواعد والقوانين واتساقها مع ما هو متعارف عليه دوليا.
مشكلة الحكومة المستعصية أنها تبحث عن رضا المواطن بإجراءات أقل ما توصف به أنها صادمة لكل أمل فى الحياة.
هناك أفكار إيجابية يتضمنها البرنامج الحكومى فى رفع منسوب تنافسية الاقتصاد وتشجيع الصناعات المصرية ومراجعة ضمانات جودة المنتج المستورد وإنشاء هيئة جديدة لسلامة الغذاء تتبع رئيس الجمهورية غير أن السياق العام يقلل من قيمة كل فكرة جديدة.
عندما تقول للناس إن قدرتهم على الوفاء باحتياجاتهم اليومية أصبحت أكثر قسوة فإن الكلام لا يسمع عن أى جديد أيا كانت إيجابياته.
أى تقدير موضوعى للملف فيما بعد «الإجراءات المؤلمة» يشير إلى أزمات محتملة واضطرابات ممكنة وسحب فادح من رصيد الشعبية وتغيير كبير فى المعادلات السياسية.
حقيقة رئيس الوزراء أفضل من صورته، فهو رجل جاد يتحدث جادا، غير أنه يجد نفسه فى اختبار يصعب اجتيازه.
إذا لم يكن هناك عدل فإن الاضطرابات سوف تطل برأسها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة