في منتصف التسعينيات كان أحد كبار المسؤولين الأمريكيين يسخر من أمين عام الأمم المتحدة بطرس غالي قائلا: إنه يظن نفسه رئيسا للعالم
في منتصف التسعينيات كان أحد كبار المسؤولين الأمريكيين يسخر من أمين عام الأمم المتحدة في ذلك الوقت بطرس غالي قائلا: إنه يظن نفسه رئيسا للعالم.
وبقدر ما حملت عبارته من سخرية، فإنها أيضا كانت تعبيرا عن حجم التوتر في علاقة غالي بإدارة الرئيس بيل كلينتون وتحديدا المندوبة الأمريكية لدي الأمم المتحدة مادلين أولبرايت، التي تولت وزارة الخارجية في الفترة الثانية لكلينتون.
لم يكن غالي ينظر إليها بتقدير كبير وكان يقلل من إمكانياتها كأكاديمية، ودخل معها في صدامات كثيرة خلال أغلب السنوات الخمسة التي قضاها في المنظمة الدولية. اختلف الاثنان علي كل شيء من تسديد المستحقات الأمريكية للأمم المتحدة إلي دور قوات حفظ السلام ، إلي التدخل الأمريكي والدولي في الصومال ثم الحرب في البوسنة والتحقيقات الدولية في مذبحة قانا التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في موقع للقوات الدولية في جنوب لبنان.
ربما تصور غالي بالفعل أنه رئيس للعالم، وربما لم يكن يفهم مداخل السياسة الأمريكية الداخلية جيدا حتي إنه أصبح أداة لهجوم الجمهوريين ومرشحهم الرئاسي بوب دول علي كلينتون، بعد أن تمادي غالي في الصدام مع الإدارة الأمريكية معتمدا علي مساندة دولية واسعة. وربما نسي أو تجاهل أن واشنطن لا تحتاج إلا لصوت واحد فقط في مجلس الأمن الدولي هو صوتها لتحطيم آماله. المحصلة أنه تم بالفعل حرمانه من تولي فترة ثانية. وقد سمعت غالي بعدها بسنوات يتحدث بلغة يبدو منها أنه ندم علي أسلوبه الصدامي مع واشنطن.
اللافت للنظر أن الفترة التي تولى فيها غالي في بداية عام ١٩٩٢ كانت مبشرة بمرحلة جديدة للعلاقات الدولية مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، وتولي إدارة كلينتون التي كانت تعطي اهتماما كبيرا للأمم المتحدة والعمل من خلال المنظمات الدولية.
لكن حدثت تطورات أفضت إلي هذا الصدام بدءا بسقوط طائرة هليكوبتر أمريكية في الصومال أثناء التدخل الدولي لإنهاء المجاعة والحرب الأهلية، مما أدي لإنهاء الدور الأمريكي هناك وتوجيه اللوم للعملية السياسية بقيادة الأمم المتحدة، ثم تقاعس واشنطن أيضا عن التدخل لمنع المذابح الجماعية في رواندا.
وعندما بدأت الحرب الأهلية في البوسنة بين المسلمين والصرب والكروات، كان بطرس غالي يعطل التدخل العسكري لحلف الناتو وكان يصف تلك المأساة "بحرب الرجل الغني" مقارنة بالكارثة الإنسانية في الصومال التي بدأت تعاني الإهمال والنسيان.
لكن الحقيقة ـ من وجهة نظري ـ أن موقف غالي من قضية البوسنة كان بالفعل سلبيا. وحتي مع اتفاقنا على ما حدث من إهمال للصومال ، فإن ذلك ليس مبررا لإهمال أي منطقة أخري. لم يحصل غالي علي العدد الكافي من القوات الدولية في البوسنة وكان ذلك مقيدا له. وكان يصر ـ وهذا مفهوم ـ علي الدور المحايد لقوات الأمم المتحدة وأن تقوم فقط بحماية قوافل الإغاثة الإنسانية حتي لا تتعرض لمخاطر الصدام مع القوات الصربية التي كنت تحاصر العاصمة سراييفو ومدنا مسلمة أخري وصفت بالمناطق أو الملاذات الآمنة أشهرها سريبرينستا.
لكن ما لم يتوقعه أحد هو أن تقف القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة متفرجة عندما اقتحمت القوات الصربية سريبرينستا وقتلت أكثر من ثمانية آلاف رجل وشاب صغير في عمليات إعدام جماعية، خرجت بعدها الصحف بصورة كارثية لقائد القوات الهولندية وهو يتبادل الأنخاب مع قائد القوات الصربية راتكو ملاديتش.
فإذا كانت قوات الأمم المتحدة عاجزة أو حتي متواطئة كما اتهمها البعض، فإن غالي كان عليه أن يبدي مرونة أكبر في السماح لقوات الناتو بالتدخل من خلال الهجمات الجوية، لكنه كان يعرقل هذا التدخل حتي قررت إدارة كلينتون تجاهله تماما وتم بالفعل قصف القوات الصربية وفك الحصار عن أغلب المدن البوسنية المحاصرة تمهيدا لاتفاق السلام الذي وُقّع في مدينة دايتون الأمريكية بإشراف المبعوث الأمريكي ريتشارد هولبروك، ودون أي دور حقيقي أو حتي شكلي للمنظمة الدولية.
ثم كان الصدام الأخير بين غالي وإدارة كلينتون عندما أصر علي إعلان نتائج التحقيق في مذبحة قانا بإدانة واضحة للقوات الإسرائيلية.
وكانت النتيجة أن غالي ترك منصبه بفيتو أمريكي ضد التجديد له. وأذكر أنه عندما ألقي خطاب وداعه الأخير في الأمم المتحدة، كانت مادلين أولبرايت تجلس في الصفوف الأمامية، حيث ندد بتقاعس القوي الدولية في عمليات حفظ السلام. وعندما تحدث عن ضرورة الحفاظ علي استقلالية دور المنظمة الدولية ورفض هيمنة أي دولة عضو، بدا تغير واضح علي وجهها وتحركت شفتاها بكلمات هامسة لم يكن الأمر يحتاج إلي ذكاء كبير لإدراك أنها لم تكن الأكثر حياء وتهذيبا.
ربما يكون بطرس غالي خسر المعركة، وربما يكون أخطأ في بعض الحالات ومنها ـ في تقديري ـ كيفية إنهاء النزاع في البوسنة ، لكنه أيضا أثار إعجاب الكثيرين بذكائه الحاد ومهارته الدبلوماسية وقدراته كمفكر سياسي فذ ترك بصمات واضحة علي المنظمة الدولية وتحديد دورها في مرحلة تاريخية مضطربة فيما بعد الحرب الباردة، واستطاع التأكيد علي هذا الدور واستقلاليته، وهو ما أشار إليه الأمين العام الحالي بان كي مون في كلمة التأبين التي أدلي بها بعد إعلان وفاته.
ذهب بطرس غالي بحسناته وأخطائه، لكنه ترك مفاهيم أساسية لابد من التمسك بها إذا كان للأمم المتحدة أن تستمر بفعالية في عالم القطب الواحد أو متعدد الأقطاب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة