لابد أن الطبيب الشاب الذي لا أعرف اسمه ولا يعرف اسمى يذكر هذه الواقعة؛ فخلال انتظارى العصيب لم أر من يوجه له كلمة شكر
لست متبجحًا كفاية لأرى في يومياتى ما يستحق التسجيل ليكون عبرة لمن يعتبر!
وأرى في فئوية تقديم الذات «أنا صحفى» أو «أنا ضابط» سلوكًا قليل الحياء ومناقضًا لحلم الدولة الحديثة التي أتطلع إلى أن يلامسها أحفادى في المستقبل البعيد إن شاء الله؛ لذلك فالواقعة التي أرويها هنا، عمرها أشهر، وما كنت لأرويها لولا تصاعد التنابذ الفئوى حول من يموت فداء للآخرين، ومن يستحق أن يُسحل في محل عمله دون أن ينال المعتدى العقاب!
في ذلك اليوم البعيد، تلقيت اتصالاً من تليفون زوجتى وكانت المتحدثة إحدى زميلاتها. أخبرتنى أن زوجتى تعانى من هبوط. وبالسرعة الممكنة في شوارعنا المنسدة وصلت إلى مكان العمل، وألح الجميع عليّ بأن أتوجه إلى مستشفى التأمين الصحى، لأننى في كل الأحوال سأضطر إلى اعتماد الإجازة المرضية من هناك إذا ذهبت إلى مكان آخر، وسيكون هذا أصعب مما لو توجهت إلى طوارئ التأمين مباشرة.
وكانت تجربة مريرة، بين إثبات الحضور بالبطاقة والحصول على تذكرة لتوقيع الكشف، ثم التوجه إلى سويقة الطوارئ التي يتجمع في بهوها وغرفها المحدودة نحو ثلاثمائة من المرضى والمرافقين يخدمهم ثلاثة من الأطباء الشباب. تدبرت كرسيًا لمريضتى، وخاطبت أحد الأطباء الذي تناول منى الأوراق وأعطاها للممرضة للتسجيل وتدبير السرير ومضى. في الحقيقة لم يمض بكامل إرادته، بل مدفوعًا بطوفان الزحام من خلفه مستسلمًا لمرافق ملح أخذ يجره جرًا نحو مريضه.
وانتظرت انتظارًا بدا لى بلا نهاية، أخذت خلاله أوزع نظراتى بين الاهتمام بزوجتى ومراقبة ما يجرى. كان الأطباء الثلاثة مع مثل عددهم من سيدات التمريض يركضون من سرير إلى سرير، وبين وقت وآخر يندفع مرافق يشد الطبيب عنوة أو يدفعه أمامه لتوقيع الكشف على مريضه قبل غيره، بالإضافة إلى صنف المتمارضين المحترفين الذين يرفعون جعيرتهم بالآه، التي تتحول سريعًا إلى تحرش لفظى بطاقم العاملين، بقوة صوت تُكذِّب ادعاءاتهم بالوهن.
في ركضه بالممر تقدمت من الطبيب الذي سلمته أوراقى ورجوته الإفراج دون كشف. وقف صامتًا مشوشًا للحظات لا يعرف ما يقول، ممزعًا بين واجب تقديم الخدمة وعدم وجود سرير. أقسمت له أننى غير غاضب منه، وأننى أدعو له وزملائه بالتوفيق، فبعينى هاتين رأيت أنهم لم يقصروا.
وفى تلك اللحظة رأيت الحزن على وجهه كثيفًا يمكن لمسه باليد، فكرت فيما يمكن أن يكون قد دار في رأسه بتلك اللحظة، في الفرق بين حماسه للبالطو الأبيض في سنته الجامعية الأولى وبين ثقل هذا الرداء في لحظة العجز هذه. وكدت أحتضنه لأخفف عنه يأسه المحتشم.
«أعطنا الأوراق ولا تحزن، فإنك لم تحنث بقسم أبقراط، لم تتقاعس عن تقديم الخدمة لنا، الذي تقاعس هو النظام الطبى المهترئ ومن وضعه».
ولم يعلق على ما قلت، لكنه طلب منى برجاء صادق أن أنتظر لحظة ليطمئن على نبضها أولاً، واندفع إلى سرير مريض أنجز المطلوب له وعاد بعد دقيقتين، وقع الكشف على زوجتى على كرسيها في الممر المزدحم. طمأننا على الحالة وشكرناه مغادرين.
لابد أن الطبيب الشاب الذي لا أعرف اسمه ولا يعرف اسمى يذكر هذه الواقعة؛ فخلال انتظارى العصيب لم أر من يوجه له كلمة شكر، رأيت فقط نقص إمكانيات ونظامًا طبيًا عقيمًا وفاسدًا يأكل أرواح الأطباء قبل المرضى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة