بداية، العالم محتاج إلى وجهة، إلى جهة عامة يسير نحوها أو تهيمن في عمل مؤسساته الدولية وقواه الكبرى، وما يلزم ظهوره من هيئة تفكير عالمية
أقرب شيء إلى أن يكون وجهة عالمية منذ ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وفي صورة ما منذ نهاية الحرب الباردة، هو «الحرب ضد الإرهاب». وما ستقوله هذه المقالة إن هذا خطير جداً، وإن حال العالم اليوم ليست مرشحة لغير مزيد من التدهور إن لم يحدث عاجلاً تحوُّل كبير.
بداية، العالم محتاج إلى وجهة، إلى جهة عامة يسير نحوها أو تهيمن في عمل مؤسساته الدولية وقواه الكبرى، وما يلزم ظهوره من هيئة تفكير عالمية. لحظ مفكرون في الغرب «نهاية السرديات الكبرى»، ونهاية «التقدم» و «الحداثة». وفي ثنايا تحليلاتهم النافذة، المشبعة بالمركزية الغربية، ينبث شعور بأنه لا يمكن فعل شيء حيال هذه الحال. إن الأمور تجري على هذا النحو، وإن العالم (= الغرب) هو ما هو عليه، وليس لنا غير وصفه ورصد ملامح تحولاته، وربما المثابرة على التنديد بالطوباويات بعد أن لم تعد هناك أي طوبى عالمية في عالم اليوم. وهذا يجري بينما العالم يصير عالماً أكثر من أي وقت سبق بفعل زوال عوائق سياسية وأيديولوجية سبق أن قسمته، والتقدم الحاسم للرأسمالية من دون منافس، ثم بفعل ثورة الاتصالات.
في فراغ المشروع العالمي، حلّ مشروع الأقوياء العالميين: «الحرب ضد الإرهاب». الأمر مروّع منذ حلول الحرب كمشروع للعالم، أياً تكن هذه الحرب. الحرب تعني العنف وقتل البشر وتدمير الموارد، وتعني الاستثمار في صناعة السلاح وتوجيه أموال كثيرة نحوها، وتعني الاستنفار والتعبئة على الكراهية وإنتاج أيديولوجيات وعقائد تسوغ الحرب والكراهية، وهي تعطي امتيازاً وأفضلية للأقوياء في صناعات الحرب والسلاح، وللأغنياء والمتحكمين بالمعلومات.
الحرب ضد الإرهاب كانت أولوية مفضلة لإدارة بوش الثاني، وهو سليل أسرة نفطية غنية، كان أبوه رئيساً قبله، وقبل ذلك مديراً للمخابرات المركزية الأميركية، وأحاط هو نفسه بأعلام تيار المحافظين الجدد، وهم مؤمنون جداً بفضائل العنف لجعل العالم آمنا للأميركيين، وكي يبقى القرن الحادي والعشرون قرناً أميركياً. والحرب ضد الإرهاب مناسبة جداً لإسرائيل القوية بالسلاح والمستندة إلى دعم أميركي سخي بقدر ما هو دنيء، وهي، الحرب، تمكن إسرائيل من وضع الكفاح الفلسطيني كله بين قوسين، وتجريد الفلسطينيين من قضيتهم بعد تجريدهم من وطنهم المحتل. ومنذ تدخلت الولايات المتحدة في الصراع السوري قبل نحو عام ونصف العام، كان ظاهراً أنها تلحق القضية السورية بالحرب ضد الإرهاب، فتجرد بذلك الثائرين السوريين من قضيتهم، وتعطي قضية لأمثال بشار الأسد. «الحرب ضد الإرهاب» مناسبة جداً لنظام السلالة الأسدية التي قال وزير خارجيتها الجسيم قبل أيام قليلة، إن الإرهابي هو «كل من يحمل السلاح في وجه الدولة»، وهي تمكّنها على الطريقة الإسرائيلية من إحالة كل مقاومة لها إلى إرهاب مدان يسهل استقطاب قوى العالم النافذة لمساندته. والحرب ضد الإرهاب مناسبة جداً لمثل روسيا بوتين لأنها تتيح إطلاق يدها في الداخل السوري، واليوم في «سورية التعيسة مثل عظمة بين أسنان كلب» على ما قال شاعر سوري عظيم توفي شاباً، رياض الصالح الحسين. والحرب ضد الإرهاب قضية مناسبة جداً لأطقم الحكم في البلدان العربية من دون استثناء، تتيح لهم تجريد محكوميهم من السلاح، ومن السياسة، ووضعهم تحت إمرة الأقوياء الحاكمين.
يُنسب إلى رفعت الأسد، شقيق حافظ ونائبه يوماً، وعم بشار، وقائد سرايا الدفاع، التشكيل العسكري الأمني المسؤول عن مذبحتي تدمر 1980 وحماه 1982، أنه قال يوماً: قل فلسطين، وانصب المشانق! تبدو العبارة أذكى من أن يقولها رفعت، لكن مثلها يصلح شعاراً لقضية مكافحة الإرهاب: قل إرهابا، وعلق المشانق! أو قل إرهاباً واحتل بلداناً، وافتح سجوناً مثل غوانتانامو وأبو غريب، أو ودمر بلداناً مثل الشيشان وأفغانستان والعراق وغزة وسورية (لدى الإسلاميين معادل لذلك: قل إسلام، واذبح من تشاء! قل الله أكبر، واستولِ على ما تشتهي من أملاك عامة وخاصة!).
«الحرب ضد الإرهاب» قضية متمركزة جداً حول الدولة، التي لما كانت هي المولجة بمكافحة الإرهاب فإنها لا يمكن أن تكون إرهابية. لا أميركا في أي وقت، ولا روسيا بوتين، ولا إسرائيل ولا الأسدية هي قوى إرهاب، وإن تسببت الأخيرة بأزمة عالمية كبرى أودت حتى اليوم بـ470 ألف سوري حسب «الغارديان» قبل أيام، وبمجموع من القتلى والمعاقين والمصابين يقارب المليونين، أكثر من 11 بالمئة من السوريين. هذا ليس إرهابياً، الإرهابيون هم أياً يكن من يصادف أنهم يقاومونه، ومعه اليوم رجل في سجله تدمير غروزني. كل من لديه دولة ليس إرهابياً، بل من المناسب اعتماده حليفاً في مكافحة الإرهاب، ولو كان قاتلاً خسيساً مثل بشار الأسد.
محاربة الإرهاب كقضية عالمية ليست مجرد إحلال لقضية أمنية وجيهة، يفترض أن تتعامل معها أجهزة الشرطة، محل الوجهة العالمية التي تتطلع إليها سياسات الدول وتيارات الفكر، بل هي أسوأ من ذلك بألف مرة: إنها القضية التي تتيح تحكم الأقوياء برقاب الضعفاء، سلطان الأقوياء الأغنياء في عالم لم يشهد يوماً مثل هذه الثروة والقوة ومثل تركزهما، ومثل انعدام حس الأقوياء الأغنياء المتحكمين ووحشيتهم.
لكن إن عرفنا مما سبق شيئاً عن الحرب ونظامها، فما هو الإرهاب، ومن هم الإرهابيون؟ الواقع أن سلطة تعرف الإرهاب، واللاإرهاب بالتالي، تقع بيد من يمارسون الحرب ضد الإرهاب، ومن يقررونها كوجهة عالمية. الإرهابي هو من أقرر أنا، القوي الغني المالك لـ «دولة»، أنه تهديد لي. كل ثورة وكل اعتراض مسلّح إرهاب، وفقاً لهذا المنطق.
لإرهابيي اليوم تحديدان أساسيان: أولهما أنهم ضعفاء، ليسوا دولاً في الغالب. الاتجاه العام هو اعتبار الدول كلها شيئاً طيباً (هذا هو اتجاه التطور العام بين بوش الثاني وأوباما)، واللادول كلها شيئاً سيئاً، ومقاومة «الدولة» الشيء الأسوأ. الحرب ضد الإرهابيين طيبة بالمقابل، تشغل صناعة السلاح وشركاتها وتتيح تجريب أسلحة جديدة، وتدريب القوات المسلحة، ولا تشكل عبئاً على الميزانية، مثلما قال محارب الإرهاب بوتين عن حرب قواته إلى جانب الأسديين. التحديد الثاني للإرهابيين، أنهم بنسبة تقارب مئة في المئة اليوم مسلمون. وهذه صفة متفاقمة، إما تعدنا بأوضاع طائفية عالمية تتطلع إلى تجديد القرون الوسطى على أسس فائقة الحداثة، أو تعد بمذبحة كبرى ضد المسلمين، ليس من الضروري أن تأخذ شكل غرف غاز في معسكرات اعتقال وفق السابقة النازية. لا يمنع أن تأخذ شكل مذبحة كيماوية (بروفتها الأولى مذبحة بشار في الغوطة الشرقية/ آب - أغسطس 2013) أو نووية (ألمح إليها بوتين قبل شهرين). الواقع، أننا ربما نشهد فصلاً أولاً من هذه المذبحة في سورية التي تتنامى حظوط بشار الأسد في البقاء حاكماً لها فعلاً، بعد أن قارب ضحاياه نصف المليون.
للإسلاميين، والتيار السلفي الجهادي بخاصة، استعدادات إرهابية فعلاً، لا تميز بين مدني وعسكري، يعززها ضعف الحس الإنساني والاجتماعي في أوساطهم، وقد تسبّبوا بأذى مهول في سورية، وفي العراق وأفغانستان، لكن الحرب ضد الإرهاب ليست كفاحاً ضد إرهابيين معتدين، وإنما هي وجهة عالمية من أجل تحكم الأقوياء وفرض سلطتهم العالمية ضد الضعفاء الفقراء في كل مكان. ثم إنه عند النظر من منظور عالمي، فإن هؤلاء الإرهابيين هم بالكاد مشكلة أمنية، وما كان لمواجهتهم أن تكون الوجهة العالمية في غير عالم مصمم على استبعاد السلام والسياسة مبدئياً، وعلى الحاجة إلى حرب دائمة.
يبقى أن الحرب ضد الإرهاب كوجهة عالمية هي ما يفسّر التلاقي الأميركي - الروسي الذي لا يزال يدهش كثراً في كل مكان. ليس أن الأميركيين، وقد اخترعوا هذه الوجهة، لا يجدون ما يقولونه حين تدخل روسيا المشهد السوري باسم اختراعهم ذاته، الأمر يحيل بالأحرى إلى أوضاع بنيوية أكثر رسوخا: عالم الأقوياء والدول ضد الضعفاء المشتتين. الحرب ضد الإرهاب هي إرهاب الأقوياء ضد محاربين مشتتين غير منظمين، فوق كونها حرب الأقوياء ضد الفقراء.
دولة اليوم هي إرهاب منظم، أو هي الاحتكار المشروع للإرهاب ولتعريف الإرهاب، وتعريف الشرعية أيضاً. إنها إرهاب منظم ضد أية مقاومة لها. بوتين وأوباما وبشار ونتانياهو أقرب إلى بعضهم بكثير من هذا الباب الذي هو أهم من كل الأبواب، باب الحرب التي لا تنتهي.
ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة