آخر ما توصل إليه المسؤولون عن الأمن في العراق إنشاء «سور» حول بغداد ليحميها من المتفجرات والمفخخات والانتحاريين.
آخر ما توصل إليه المسؤولون عن الأمن في العراق إنشاء «سور» حول بغداد ليحميها من المتفجرات والمفخخات والانتحاريين. وعلى رغم أن الفكرة ليست جديدة فقد اختمرت الآن وقرر المسؤولون البدء بتطبيقها، خصوصاً مع عدم توافر بدائل أخرى لتحقيق الأمن راهناً. وتواجه الخطة انتقادات ومعارضة بعض القوى السياسية التي ترى أنها ستكرس الطائفية والمناطقية وتعزل بغداد عن بقية المحافظات. غير أن هذا الرأي لا يبدو لمعظم البغداديين التائقين إلى الأمن معقولاً، لأن بوابات بغداد الرسمية وهي الطرق الرئيسة والفرعية المؤدية إليها ستبقى مفتوحة، ولكنْ مراقبة كما هي الآن، و»السور» المقترح سيغلق الثغرات التي يستغلها الإرهابيون حالياً للنفاذ إلى بغداد وترويع أهلها وزعزعة أمنها.
النائب عدنان الأسدي الذي كان مسؤولاً أمنياً رفيعاً لعشر سنوات، يرى أن أفضل وسيلة لحماية بغداد والمدن الأخرى هي الرقابة الإلكترونية المتطورة على الطرق والشوارع ومراكز التسوق المستخدمة في البلدان الأخرى، إلا أن هذه الوسائل غير متاحة حالياً، وفقاً لقوله، بسبب كلفتها العالية، والمال أصبح شحيحاً في ظل الأزمة المالية التي تعصف بالعراق وبقية الدول المعتمدة على النفط.
ويقول المتخصصون ومنهم السيد الأسدي إن معظم السيارات المفخخة والانتحاريين الذين يشيعون الرعب في بغداد يأتون من مناطق خارجها، والسيارات المفخخة التي تنفجر في بغداد تُفَخَّخ في تلك المناطق، وهي تحديداً غير مستقرة وتجاور العاصمة ومنها الفلوجة وديالى، وهي تأتي إلى بغداد عبر طرق محددة يُفترض بالخطة الأمنية أن تعالج أخطارها.
منتقدو الخطة يقولون إنها ستعزل المناطق المجاورة للعاصمة عنها وتقتطع أجزاء من محافظات أخرى كالأنبار، وتضيفها إلى العاصمة، وأي خطة أمنية يجب ألا تستهدف بغداد فحسب بل تشمل كل المحافظات. وعلى رغم وجاهة الرأي الأخير يجب الاعتراف بأن بغداد مستهدفة أكثر من غيرها كونها العاصمة التي تحتضن الحكومة والنشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والفنية المهمة. كما أن عدد سكانها يفوق خُمس سكان العراق، إذ يقدر بسبعة ملايين، ما يضاعف الخسائر البشرية والمادية التي يخلِّفها العمل الإرهابي، لذلك على أي خطة أن تعطي الأولوية لبغداد، وفي حال نجاحها تطبق في المحافظات الأخرى.
بعض القوى السياسية يعارض أي مقترح تطرحه الحكومة لمجرد المعارضة، ولا ينظر إلى إيجابياته بل يتوقع الأسوأ عند تطبيقه، ويتخيل حدوث سيناريوات رهيبة قبل حدوثها، بل ربما يتمنى حدوثها كي يثبت صحة رأيه. أمن العاصمة ضرورة لاستقرار العراق ككل ويجب أن تتضافر الجهود لتحقيقه، وإن كان بعض المسؤولين والنواب لا يخشون الإرهاب لأنهم محصنون منه بسياراتهم المدرعة وعناصر الحماية المدججين بالسلاح الذين يحيطون بهم على مدار الساعة. لكن أكثر الناس لا يحظون بهذه الامتيازات، وهم يستحقون الحد الأدنى من متطلبات الحياة ألا وهو الأمن، حتى لو ببناء «سور» حول بغداد، علماً أن الفكرة غير واردة هكذا، والمطروح إخضاع بغداد لخطة أمنية تتضمن قنوات مائية وحواجز إسمنتية وموانع طبيعية كي يتعذر دخول العاصمة من دون المرور بنقاط التفتيش المقامة عند مداخل الطرق المؤدية إليها.
خطة بغداد المقترحة ستعزز أمن العاصمة وتُشعِر سكانَها وزائريها بالأمان. كما ستقلّص حالات الإفلات من المسؤولية التي تحصل حالياً عند أي خرق أمني، إذ لا يمكن أن يُلام المسؤولون عن أمن تلك المنطقة وحدها لأن الخطر ربما جاء من مناطق أخرى وعبر طرق أخرى، وهذه من النقاط المهمة في الخطة.
ويعتقد كثر بأن الخلل الأمني الحالي ناتج أما من نقص الخبرة أو الإهمال أو ربما التواطؤ مع العناصر الإرهابية، وأن المتواطئين والمهملين يفلتون من المحاسبة بسبب ضياع المسؤولية الناتج من تعدد مصادر الخطر وعدم معرفة الجهة التي انطلق منها. والخطة المقترحة ستحدد بالضبط الجهة المسؤولة عن الخرق إن حصل. ومن منافعها تقليص نقاط التفتيش الكثيرة المنتشرة وسط العاصة والتي تتسبب بزيادة الازدحام وإضاعة الوقت وتباطؤ الحركة وتلويث البيئة. كما ستؤدي إلى إزالة الحواجز الإسمنتية التي تحيط بالمباني الحكومية ومراكز التسوق وتشوّه جمال المدينة التي اعتبرت يوماً من أجمل مدن الشرق.
لن يعارض سكان بغداد أي خطة لحمايتهم من إرهاب يعانونه منذ 13 سنة، والذي أدى بكثيرين منهم إلى الهجرة. ومن هنا، فعلى منتقدي الخطة أن يفكروا بواقعية وألا يعارضوا أمراً فيه منفعة محتملة لسكان العاصمة الذين يمثلون الطيف العراقي بكل تلاوينه الطائفية والقومية والثقافية والاجتماعية. الخطة الأمنية ستحمي السكان جميعاً ولا تفرق بينهم على أسس طائفية أو عرقية أو دينية أو سياسية، لأن الأمن منفعة كلية. عليهم أن ينتظروا تطبيقها، فإن رأوا فيه خللاً فبإمكانهم حينئذ أن يكشفوه ويطالبوا بإصلاحه. التمييز بين الناس يرفضه الجميع، ولكن الهمّ الأول لسكان العاصمة هو فقدان الأمن، وأي محاولة لبسطه يجب أن تعطى الفرصة للنجاح. وفي الوقت نفسه فواجب الحكومة والبرلمان والمؤسسات الأخرى مراقبة تطبيق الخطة الأمنية للتأكد من أنها أمنية فحسب ولا تستخدم لأغراض أخرى، سياسية أو طائفية أو غير ذلك. لقد مل العراقيون كثرة الجدل والاختلاف على كل شيء، حتى في القضايا المصيرية كالأمن. صحيح أن الجدل من طبيعة النظام الديموقراطي وكل فكرة يجب أن تخضع للنقاش العام قبل تنفيذها، إلا أن بعض السياسيين مجبول على التفكير بكيفية إيذاء خصومه في كل فرصة تتاح له حتى لو على حساب المصلحة العامة.
«سور بغداد» سيحمي أهالي بغداد وزائريها والمقيمين فيها، على الأقل جزئياً، ويجب الترحيب به والمطالبة بخطط أمنية ناجحة في مناطق العراق الأخرى لتحقيق الأمن والاستقرار وإلحاق هزيمة نهائية بقوى الإرهاب.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة