والنتيجة: أنه يتم حاليًا تسييس القضاء في أمريكا، ومع الاستقطاب السياسي الحاد صار هناك استقطاب مشابه في منصة القضاء
لم تكد تمر دقائق على إعلان وفاة قاضي المحكمة العليا في أمريكا أنتونين سكاليا حتى احتد الجدل في كل وسائل الإعلام الأمريكية خاصة الإخبارية منها، ليس بشأن الفقيد وتاريخه وتأثيره في الحياة العامة، ولكن حول ما إذا كان ينبغي للرئيس أوباما أن يعين قاضيًا مكانه خلال العام الأخير لولايته.
قد يكون ذلك تعبيرًا عن افتقاد اللياقة في التعامل مع هذه الأمور، وهذا حقيقي، لكن المدهش أنه صار متوقعًا وطبيعيًّا، فالسياسة أصبحت هي الحاكم في كل التصرفات والقرارات.
قد يطرأ السؤال: وما علاقة ذلك بالسياسة؟ أليس القضاء مستقلًا في أمريكا خاصة المحكمة العليا؟
وللإجابة عن ذلك سأعود بالقارئ لعام 2000 عندما احتدت المنافسة بين المرشحين للرئاسة آل جور عن الحزب الديمقراطي ، وجورج دبليو بوش عن الحزب الجمهوري. كان الصراع في النهاية على ولاية فلوريدا وفاز بوش بفارق عدة مئات من الأصوات، وبالتالي كان يتعين الدخول في عملية إعادة الفرز والجدل القانوني بشأن القواعد التي تحكمها. فريق بوش بقيادة وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر بدأ العملية القانونية التي كان يعلم مسبقًا أنها ستنتهي به إلى المحكمة العليا في واشنطن، لم تكن تلك الخطوة اعتباطية بل مدروسة بعناية، فهم يعلمون أن المحكمة المشكلة من 9 أعضاء بها 5 تم تعيينهم من قبل رؤساء جمهوريين، بينما الأربعة الباقون تم تعيينهم من قبل رؤساء ديمقراطيين، الحسبة إذن بسيطة وصدر القرار بالفعل من المحكمة العليا لصالح بوش بأغلبية 5 أصوات ضد 4.
وعادة يتم ترشيح القاضي من قبل الرئيس ثم يقوم مجلس الشيوخ بالتصديق على تعيينه، ويستمر القاضي في منصبه مدي الحياة مالم يقرر التقاعد قبل وفاته وهو ما يحدث كثيرًا، لكن في هذه الحالة جاءت الوفاة مفاجئة وفقد الجمهوريون أحد أقوى الأصوات المحافظة في المحكمة العليا.
قبل وفاته كانت المحكمة بها أغلبية بسيطة للمحافظين ٥\٤ ، إلا أن بها قاضيًا واحدًا (انتوني كيندي) الذي يميل للمحافظين لكنه في بعض الأحيان يغير اتجاه المحكمة ويصوت مع الليبراليين، أما غيره من القضاة فإنه يكاد يكون معلومًا سلفًا طبيعة القرار الذي سيتخذونه في القضايا المطروحة، بما يعني أن تعيين قاضي ليبرالي الآن سيغير من التوازن الموجود داخل المحكمة ليكون في صالح الليبراليين.
بالطبع القضية ليست بالضرورة تأثير ذلك على اختيار الرئيس القادم فهي حالة استثنائية كما حدث مع بوش، لكن هناك الكثير من القضايا التي حسمتها المحكمة على أسس سياسية، مثل دور المال في العملية الانتخابية، فبينما يرى الديمقراطيون أنه مفسدة ويعطي الأثرياء صوتًا أقوى في العملية السياسية، أيدت المحكمة موقف الجمهوريين بأن المال هو تعبير حر عن الموقف السياسي. وقس على ذلك الكثير من القضايا مثل دور المحكمة في إقرار قانون الرعاية الصحية للرئيس أوباما، وحقوق المثليين في الزواج وحق المرأة في الإجهاض، وغيرها من القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الهامة.
ولكن إذا كان القضاة من منصتهم القضائية يؤثرون سلبًا وإيجابًا في التحولات السياسية، فإن الساسة بدورهم يحاولون فرض توجهاتهم السياسية في اختيار القضاة؛ لذلك تجد أن أوباما بدعم من الديمقراطيين اختار قاضيتين: سونيا سوتومايور كأول قاضية هيسبانيك، وكذلك إلينا كاجان وهي يهودية ليبرالية من نيويورك. وعندما نعود لسلفه جورج بوش، نجد أنه اختار رئيس المحكمة الحالي جون روبرتس لكن الممارسة أوضحت أن لونه السياسي ليس حادًّا بالشكل الذي يرضي المحافظين، لذلك عندما حاول ترشيح مستشارته القانونية هارييت مايرز، كانت المفاجأة أن المعارضة لم تأت من الديمقراطيين ولكن من أنصاره من الجمهوريين الغاضبين؛ لأن مايرز ليست محافظة بالقدر المطلوب لديهم، فتم ترشيح سامويل إليتو بتوجهاته اليمينية المعروفة.
وربما يكون أخطر ما سيقوم به الرئيس القادم هو ترشيح قاضيين أو ثلاثة مع كبر سن عدد من قضاة المحكمة.
هذا التداخل بين القضاء والسياسة يفسر هلع الجمهوريين من إمكانية اختيار أوباما لخليفة الراحل سكاليا، لذلك سارعوا بمطالبة الرئيس الأمريكي بترك هذه المهمة للرئيس القادم الذي سيتولى منصبه في يناير القادم، وهو إن حدث يعني أن هذا المنصب سيظل شاغرا لنحو عام ونصف على الأقل ما بين ترشيح وإقرار في مجلس الشيوخ. ومع الانقسام الحاد في المحكمة بين 4 ليبراليين و4 محافظين، يصبح من المحتمل أن تعجز المحكمة عن اتخاذ قرار بشأن العديد من القضايا المطروحة أمامها، وقد أعلن أوباما إصراره على استخدام سلطاته في الترشيح، لكن ذلك لن يمنع الجمهوريين من المماطلة في جلسات الاستماع وربما الاستجابة لنصائح المرشح الرئاسي دونالد ترامب: تأجيل .. تأجيل .. تأجيل، فيما سيمثل سابقة تاريخية، لكنها تظل متماشية مع حالة الاستقطاب السياسي الحاد في الولايات المتحدة التي لم تعد تسمح بالكثير من الحلول التوافقية، وأصبح مرشح رئاسي مثل جون كاسيك حاكم ولاية أوهايو تائها وسط زملائه من المرشحين غير قادر على توصيل رسالته لمجرد أنه يتحدث عن ضرورة العمل مع الديمقراطيين للتوصل إلى حلول للمشاكل.
والنتيجة: أنه يتم حاليًا تسييس القضاء في أمريكا، ومع الاستقطاب السياسي الحاد صار هناك استقطاب مشابه في منصة القضاء، وهو تهديد حقيقي لتوازن النظام السياسي في أمريكا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة