لا شك فى أهمية الدعوة إلى «تجديد الفكر الدينى الإسلامى»، فهذه الدعوة فى حد ذاتها حقيقة قديمة فى المجتمعات العربية والإسلامية
لا شك فى أهمية الدعوة إلى «تجديد الفكر الدينى الإسلامى»، فهذه الدعوة فى حد ذاتها حقيقة قديمة فى المجتمعات العربية والإسلامية، وما الاجتهاد، الذى يكاد يرقى إلى مرتبة الفرائض فى الإسلام، سوى المظهر الحى المتجدد لها. وطرح هذه الدعوة فى الظروف المعقدة الصعبة التى تمر بها المجتمعات والدول المسلمة خلال السنوات الأخيرة، يوجب أن يتم التحديد الدقيق لما يقصد بها والمستويات والمحاور التى يجب أن يمتد إليها هذا التجديد. فالأكثر دقة وواقعية هو أنه ليس فقط تجديد الخطاب الدينى الإسلامى وحده هو المهمة الضرورية اليوم– وأمس وغداً– فى مجتمعاتنا، بل أيضاً تجديد البنى والهياكل والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية من أجل تجاوز أزماتنا العميقة والمتعاقبة وذات الأبعاد المتعددة.
وما يؤكد اتساع مدى التجديد عند الحديث عن تجديد الخطاب الدينى هو أن مصطلح الخطاب فى حد ذاته لا يعنى النص، بل هو يعنى النص مرتبطاً بالسياق والظروف التى ينتج ضمنها ويتفاعل معها، وبالتالى فإن تجديد ذلك الخطاب لا يمكن له أن يتم سوى بتجديد مواز فى ذلك السياق وتلك الظروف المحيطة به. ولا يعنى هذا تأجيل مهمة تجديد النصوص الدينية أو المتشابكة مع الدين والدائرة حوله حتى تتم مهمة التجديد المؤسسى والمجتمعى بأكملها، وإنما يعنى التأكيد على أن ذلك التجديد فى النصوص لن يؤتى ثماره إلا إذا تم تجديد مواز ومماثل فى المجتمع والدولة. وتشير خبرة التاريخ الإسلامى الطويل فى شتى مناطق العالم وكذلك خبرات شعوب العالم الأخرى فى مختلف مراحلها أنه لم يحدث قط تجديد حقيقى وفعال فى خطاباتها بمختلف أنواعها سوى بتغيير شامل فى البنى والعلاقات الاجتماعية والسياسية متوازٍ مع جهود فكرية وعقلية واسعة وشاملة لتجديد الأفكار والرؤى، بما خلق حالة عامة من التجديد دفعت تلك المجتمعات برمتها خطوات بعيدة إلى الأمام.
فى كل الأحوال، فإن طرح تجديد الخطاب الدينى بالمعنى السابق باعتباره مهمة ضرورية تمليها علينا مصالحنا القومية والدينية وليس مجرد المطالبة والإلحاح عليها من أطراف خارجية، يستلزم التطرق إلى عديد من المحاور التى تمثل المداخل الفعالة والواقعية لإنجاز تلك المهمة التاريخية المعقدة والملحة. فى هذا السياق يبدو أولاً ضرورياً التعرف على الخبرات العالمية الأخرى غير الإسلامية فى تجديد الخطاب الدينى، مثل حالة البروتستانتية فى المسيحية الأوروبية، والتعرف على الدروس المستفادة من تلك الخبرة لحالتنا الإسلامية العربية. فمن المرجح أن تسفر تلك الرؤية المقارنة عن تأكيد حقيقة أن تجديد أى خطاب دينى لا يمكن أن يأتى سوى من داخل نفس الدين والمجتمعات التى يوجد بها، لا بفعل مطالبات وضغوط خارجية، وأن ذلك لابد أن يتواكب مع تغيير مجتمعى شامل وليس منفصلاً عنه.
وغير بعيد عن هذا، من الضرورى أيضاً لإنجاز تجديد فعال وحقيقى للخطاب الدينى الإسلامى فى عصرنا الحالى أن يتم النظر والدراسة فى التاريخ الإسلامى للتعرف على الخبرات السابقة الناجحة التى تخص موضوع تجديد الخطاب الدينى، وهو ما يعنى فى نفس الوقت التعرف بدقة على الشروط التى تمت ضمنها تلك الخبرات والآليات التى استخدمت فى إنجاحها. ويؤدى هذا الفحص والدراسة إلى التعرف على الإمكانيات الواقعية للاستفادة من تلك الخبرات وإعادة إنتاجها بصورة جديدة فى ظروفنا الحالية. وفى هذا السياق من الوارد– بل الضرورى– أن يعاد النظر فى مسألة إعادة فتح باب الاجتهاد فى الإسلام فى وقتنا الراهن، وهل يمكن اعتبارها مدخلاً ضرورياً لتحقيق مهمة تجديد الخطاب الدينى؟ وفى هذه الحالة فمن الضرورى النظر أيضاً إلى الشروط التى يجب أن يتم الاجتهاد فى إطارها لتحقيق الفعالية وفى نفس الوقت الاحتفاظ بقواعد وأصول النص الدينى، وهو الأمر الذى توفره دراسة الخبرات الإسلامية السابقة فى فتح باب الاجتهاد.
كذلك فمن القضايا الرئيسية التى يجب النظر إليها فى موضوع تجديد الخطاب الدينى الإسلامى تحديد طبيعة المنوط بهم القيام بها، وهل تعد مهمة تجديد الخطاب الدينى مهمة فردية يقوم بها من يرغب ويستطيع من أبناء الأمتين العربية والإسلامية، أم أنها يجب أن تكون ذات طابع جماعى منظم بحث تضطلع بها مؤسسات وجمعيات وجماعات متخصصة فى تلك المهمة. وفى حالة الإجابة بأن طابع تلك المهمة أقرب للعمل الجماعى، فإن تحديد المؤسسات القائمة الآن فى المجتمعات العربية والإسلامية، والتى يمكن لها المساهمة فى القيام بها بصورة فعالة، تضمن لها قدراً من النجاح، يعد مهمة رئيسية ذات أولوية عملية. وفى نفس الإطار العملى الملح فإن التعرف على طبيعة تلك المؤسسات القائمة لأداء تلك المهمة وما إذا كانت هى بذاتها بحاجة للتطوير لتستطيع القيام بها يعد أيضاً مهمة ذات أولوية. ويفتح ذلك التعرف والتقويم الباب أمام التوصل لتصور حول مدى الحاجة الحقيقية لخلق مؤسسات جديدة للاضطلاع بمهمة تجديد الخطاب الدينى، وهو ما يطرح تساؤلاً جوهرياً يحتاج لإجابة عملية واقعية حول طبيعة تلك المؤسسات وأنواعها ومجالاتها.
ومن المحاور ذات الأهمية فى إنجاز مهمة تجديد الخطاب الدينى تحديد طبيعتها، وإذا ما كانت مهمة ذات طابع وطنى أو قومى، بمعنى أنها تقتصر على المؤسسات والنخب بداخل كل بلد على حدة، أم أنها تتجاوز الحدود الوطنية والقومية لتصبح مهمة عامة شاملة للمؤسسات والنخب فى كل الدول الإسلامية التى عليها أن تبتدع أساليب متنوعة للتعاون فيما بينها لإنجاز ذلك. ومن الواضح والبدهى أن تلك المهمة ذات طابع عالمى يتجاوز الحدود الوطنية والقومية، وهو ما يستلزم التوصل لتصورات واضحة حول طبيعة الأدوار المتكاملة التى يمكن- ويجب على- لمناطق العالم الإسلامى المختلفة القيام بها لتحقيق تلك المهمة، وبخاصة طبيعة الدور العربى والدور الآسيوى. وفى إطار نفس النظرة الشاملة لعملية التجديد المرجوة واعتبار أنها مهمة شاملة تتضمن تجديداً فى المؤسسات والعلاقات المختلفة الموجودة فى واقع العالمين العربى والإسلامى اليوم، فمن الضرورى أيضاً الاستقرار على الأدوار التى يمكن للمؤسسات السياسية والفكرية والاجتماعية غير الدينية القيام بها.
أخيراً فإن قضية الأولويات تعد ذات وزن حاسم فى إنجاز أى تجديد للخطاب الدينى الإسلامى فى وقتنا الراهن، حيث إنه فى ظل تداخل وتعدد القضايا التى تحتاج إلى تجديد الخطاب الدينى بشأنها، يجب وضع أولويات للبدء بها، وهو ما يطرح تساؤلاً أولياً يجب التوصل لإجابة له وبخاصة فى ظل الظروف الحالية حول إعطاء الأولوية لأى من هذه القضايا، وهل البدء بالفقه أم بأصوله أو بهما معاً، أم بتنقية التراث فى مختلف العلوم الإسلامية، أم بإزالة ما علق بصحيح العقيدة من شوائب، أم بغير كل هذا. وبعد هذا يأتى ترتيب الأولويات للقضايا التى يجب البدء بإعمال التجديد فيها، ليس فقط بحكم أهمية كل منها، بل أيضاً بمدى تأثير حدوث التجديد فى بعضها على البعض الآخر المرتبط بها بصورة مباشرة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة