المجتمع هو أرض المعركة الأولى، عليه تدور المواجهة الأولى مع كل التحديات التى تشل حركة الدولة بعد ذلك
يظن البعض أن قوة الدولة هى مقياس تقدمها وازدهارها ومكانتها الدولية، وأن الدولة القوية تستمر قوية مادامت مؤسساتها قوية؛ بغض النظر عن المجتمع وأحواله، وفى الحقيقة هذه من الأوهام والظنون التى لم يشهد التاريخ لها تحققاً فى أرض الواقع، بل على العكس فقد انهارت امبراطوريات عندما ضعفت مجتمعاتها، وتفككت دول حين ضرب الشقاق بين مكونات مجتمعها؛ سواء لأسباب حقيقية، أوبفعل تدخلات خارجية، ولعل مثال الاتحاد السوفيتي، والاتحاد اليوغوسلافى ليسا ببعيد.
المجتمع دائما أهم من الدولة وقبلها، لذلك انشغل الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بتأسيس مجتمع، حتى إن وثيقة المدينة التى يكثر الحديث عنها هى وثيقة تأسيس مجتمع متماسك يجمع كل سكان المدينة من مسلمين ويهود، وعلى هذا المجتمع القوى والمتماسك، ومن خلاله انبثقت دولة بعد ذلك تعكس ارادة أعضاء هذا المجتمع، وقد تحقق هذا فى سقيفة بنى ساعدة بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حين بايع المسلمون أبابكر الصديق خليفةً فى ممارسة ارادية حرة تشبه الانتخاب فى عصرنا الحالي.
وظل التاريخ الاسلامى يُعلى المجتمع على الدولة فى جميع مراحله وفتراته؛ الى أن جاء محمد على باشا فى مصر وقَلَبَ المعادلة، وقام باضعاف المجتمع لصالح الدولة، لذلك انهار المجتمع وتراجع وتدهور عندما ضعفت الدولة، وكثيرا ما كانت تضعف وتتآكل، وتخضع لارادة الغزاة والمستعمرين، أو الهواة والطامحين، أما ما قبل محمد على باشا فقد كان المجتمع يظل متماسكا قويا قادرا على استرجاع قوته حتى اذا سقطت الدولة أو انهارت، بل انه كان يهزمُ من هَزَمَ الدولة، ويخضعه ويستوعبه، ومثال الغزو المغولى للعالم الاسلامى واضح، فقد سيطر المغول على شرق العالم الاسلامى جميعه، وهزموا ودمروا جميع الدول هناك …. ولكن استطاع المجتمع القوى أن يهزم المغول ويحولهم الى الاسلام، و يحول قوتهم الى رصيد للأمة الاسلامية عاشت عليه لقرون تالية.
وقد ظهرت نظرية سياسية حديثة فى الربع الأخير من القرن العشرين تدور حول هذه الحقيقة، اطلق عليها علاقة الدولة بالمجتمع، وضع أسسها عالم السياسة الأمريكى جول ميجدال فى كتابه المجتمعات القوية والدول الضعيفة: علاقة الدولة بالمجتمع، وقدرات الدولة فى العالم الثالث.
هذه النظرية تقوم على تحديد من يتحكم فى سلوك الأفراد … الدولة أم المجتمع؟، ومن يحدد القيم والمعايير والسلوكيات… الدولة أم المجتمع؟، ومن يجيب على احتياجات الأفراد…الدولة أم المجتمع؟…الخ، ومن خلال هذه المعايير صنف الدول والمجتمعات فى التاريخ الى أربعة نماذج هى : دولة قوية ومجتمع قوي، ودولة ضعيفة ومجتمع ضعيف، ودولة قوية ومجتمع ضعيف، ودولة ضعيفة ومجتمع قوي.
وبالتأكيد الحالة المثالية هى دولة قوية ومجتمع قوي، والتى تليها هى دولة ضعيفة ومجتمع قوي، أما حالات ضعف المجتمع فهى مقدمات لانهيار كل من المجتمع والدولة؛ مثل حالة الصومال والعراق وليبيا فى هذه المرحلة، فقوة المجتمع هى الأساس سواء أكانت الدولة قويةً أم ضعيفة، لأنه بدون قوة المجتمع لن تستطيع الدولة الاستمرار.
وبالنظر الى حالة مصر الآن نجد أنه منذ ثورة يناير 2011؛ وهناك عملية مستمرة من اضعاف المجتمع، والتركيز فقط على الدولة، وقد كان هذا هو النمط السائد فى فترة المجلس العسكري، ثم فى فترة تنظيم الاخوان، وأخيراً بعد ثورة 30 يونيه، فى كل تلك المراحل، الهم الأساسى هو تقوية الدولة، واعادة هيبة الدولة، واعادة بناء مؤسسات الدولة، وبناء عاصمة جديدة … الكل مسكونٌ بالدولة مهمومٌ بالدولة عاشق للدولة، والمجتمع أصابة الايدز الأخلاقي، ويوشك على الدخول فى مرحلة لن يستطيع الخروج منها بسهولة.
المجتمع المصرى يتآكل بصورة متسارعة، ولا أحد يلتفت، بل ان غربان الفضائيات الخاصة وبومها ينعقون على الخرائب ليل نهار؛ للتعجيل بالانهيار؛ وذلك من خلال تضخيم المشاكل، ونشر الفواحش، والتشكيك فى المسلمات الأخلاقية، ودعوة المجتمع الى رذائل الأخلاق والعادات، وفى مقابل ذلك نظام تعليمى غائب وليس فاشلا، لأنه غير موجود أصلاً، الا فى المدارس الخاصة لأبناء القادرين وقليل ما هم، أما باقى الشعب فهمه الحصول على شهادة وليس التعليم كمنظومة لبناء الانسان.
المجتمع المصرى يواجه معضلات أخلاقية قد تقود الى تدميره مثل: هيمنة القيم المادية على حياة جميع الشعب، وفى مقابل ذلك انهارت العلاقات الأسرية، وتفككت الروابط الاجتماعية، وبذلك يوشك المجتمع أن يفقد صفة المجتمع، ويتحول الى ركام من البشر يعيشون بعضهم فوق بعض فى علب خرسانية؛ أصبحت هى نمط العيش فى المدينة والقرية.
كذلك انتشرت أنواع من الجرائم الوقحة التى لم تكن معهودة فى مصر، والتى أصبح الاعلام يغذيها من خلال نشر تفاصيل الجريمة بصورة تزين فعلها عند ضعاف النفوس والمرضى وكثير ما هم فى مصرنا، فخذ اليك مثال العناتيل الذى أصبح متكرراً؛ بمعدل عنتيل فى الشهر تنشره الصحف، وما خُفى كان أوقح، واليك جرائم زنا المحارم بكل أنواعها، وقتل المحارم من أجل أتفه الأسباب، بل قتل الأباء والأمهات، والأجداد والجدات، والمأساة الكبرى قتل الأبناء والبنات، الضنا، فلذات الأكباد…!!
التحرك لتقوية المجتمع يجب أن يكون أولوية أولى لدى جميع الفاعلين فى مصر؛ من الحكومة الى مؤسسات العمل الخيري، الى المؤسسات الدينية، ورجال الأعمال، والشركات، والاعلام والفضائيات، والجامعات…الخ، الجميع لابد أن يوجه وجهه قِبل المجتمع، فهو فريضة الوقت، وأهم من الحج والعمرة، ومن كل أنواع التدين الزائف عند مشايخ القصور والفضائيات، لابد من العمل على اعادة القوة للمجتمع، من خلال تأسيس الجمعيات الخيرية التى تعنى بكل دقائق الأمور فى كل قرية ونجع وحارة وكفر، ولابد من اعادة مؤسسات الدولة التى كانت فاعلة فى عهد عبدالناصر الى المحليات، ولابد من القضاء على الفقر من خلال المسئولية الاجتماعية لقطاع الأعمال.
المجتمع هو أرض المعركة الأولى، عليه تدور المواجهة الأولى مع كل التحديات التى تشل حركة الدولة بعد ذلك، على أرض المجتمع يتم القضاء على بذور الارهاب والتطرف، وعلى أرضه أيضا يتم بناء جيل قادر على أن ينهض بمصر ويعيدها الى سالف مجدها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة