المشكلة أننا نترك الأصل ونمسك فى الفرع فى كثير من أزماتنا التى تتكرر دون ابتكار أو ابداع فى الطرح
خليط الأزمات الأخيرة يمثل تحديا حقيقيا فى طريقة تعاطينا مع واقع المجتمع المصري. فحالات الخروج على القانون والتجاوز من جانب فئات على فئات أخرى والتعصب “الفئوي” والتشنج فى مواجهة فئات أخرى هى كلها أعراض لحالة واحدة ألا وهى عدم تطبيق القانون بحذافيره على الجميع دون استثناء ودون خشية من عقاب أو نزعة انتقامية وهو واحد من المطالب الرئيسية التى خرج المصريون من أجلها فى السنوات الخمس الماضية وكانت عملية كتابة دستور جديد يقر بالمساواة فى الحقوق وتكافؤ الفرص واحدة من المكاسب التى خرجنا بها بعد طول معاناة منذ قيام ثورة 25 يناير. هل نبنى على مواد الدستور باقامة عدالة اجتماعية ومساواة أمام القانون وتكافؤ للفرص المتاحة أمام كل أبناء الأمة؟ الاجابة محيرة لأن هناك عوامل كثيرة تعوق دون تقدمنا فى سجل العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون ومن بين تلك المعوقات أن الدولة تجد نفسها فى مواجهة مع فئات تتشابك مصالحها ولا تريد أن تنزل عن مكاسبها التى تراكمت عبر سنوات وسنوات وتعتبر المساس بها ضربا من الخيال حتى لو تشدق بعض المنتمين الى تلك الفئات بالرغبة فى اقرار العدالة الاجتماعية ووقف المحسوبية ومقاومة الرشوة مقابل تأدية الخدمات العامة.
شرائح كثيرة تتحدث عن المعاناة فى قضاء المصالح فى الجهات الحكومية وعن المناخ السلبى السائد بين الموظفين العموميين تجاه طالب الخدمة وحالة التوتر بين الطرفين، بسبب أو بدون سبب، وكم من مقالات كتبت عن ضرورة اعمال القانون والضرب بيد من حديد دون أن نقترب من منطقة شائكة ألا وهى اتساع دائرة المحسوبية ووجود جماعات مصالح تتكسب من وراء تلك الحالة المرفوضة اجتماعيا ولكنها عصية على الحل. قبل ايام، وجدت دراسة حديثة قامت بها جامعة ولاية نيومكسيكو الأمريكية مع لجنة التنمية الاقتصادية فى واشنطن تتحدث عن استشراء الفساد والمحسوبية وتأثيرهما على النمو الاقتصادى فى الولاية وخلصت الى أن هناك احتياجا ملحا للمكاشفة فى المعلومات واتاحتها على نطاق واسع للرأى العام من أجل مواجهة الخروج على القانون وإنشاء لجان خاصة بالأخلاقيات Ethics Commissions للحد من التجاوزات فى الجهاز الحكومى وخلق مناخ من الثقة بين الموظف العام والمواطن.
فى الحالة المصرية، لن يجدى نفعا التلويح بالدستور أو الصراخ بضرورة تطبيق القانون دون أن نتدرج فى المواجهة من خلق ثقافة تقاوم الفساد والمحسوبية بين المواطنين وتقضى على البحث عن “الاستثناء” لانجاز مصالحهم الى حشد قوى المجتمع عن طريق التعليم والاعلام من أجل اظهار قيمة “دولة القانون” وتحسين مناخ العمل فى الجهاز الحكومى عن طريق اصلاح ادارى واقعياً- وليس خيالياً. دون أن نشعر، فى الأزمات الأخيرة بين فئات متصارعة، نرسخ لقيم “الانتصار الفئوي” لمجموعات على حساب المصلحة العامة مع التسليم بأن هناك حالات صارخة لسوء استعمال السلطة لا يمكن القبول بها. ولكن دون الايمان بأن تلك “مشكلة عامة” وليست “مشكلة خاصة” يكون الجهد الذى تقوم به فئة لاثبات كرامتها أو غضبها من تصرف ما هو خصم من رصيد الاصلاح وليس اضافة اليه مثلما يرى البعض. هناك شرائح تغضب من سلوك فئة تشكو من انتهاك حقوق أفرادها، من جانب أفراد من الشرطة على سبيل المثال، بينما لا تهتم نفس الفئة الشاكية بما يعانى منه المواطن البسيط فى المنشآت التى يديرونها. يقول منتقدوهم: هم يثورون لكرامتهم ولكنهم لا يعبأون بكرامة الغير خاصة لو كان الغير هم مواطنين عاديين لا حول لهم ولا قوة أمام سوء الخدمة المقدمة لهم. قدر من الصراحة المطلقة يصلح كثيرا من الحالة المتأزمة التى وصل اليها المجتمع ويوقف حالة الانفلات التى تقوم على قاعدة البحث عن “استثناء” لتلك الفئة أو تلك، بينما الأصل هو البحث عن صيغ توقف العبث بالقانون والاحتيال على اللوائح ولو تأملنا المشاجرة التى أفضت الى أزمة كبيرة بين الشرطة ونقابة الأطباء فستجد أن الأصل هو اعتياد البعض الحصول على “استثناء” بعينه.. ويعلم أن الطرف الآخر عليه القيام بمنحه استثناءً دون نقاش بسبب خلل فى التعامل مع قيم الشفافية والعدالة الاجتماعية والاستقامة الأخلاقية..
المشكلة أننا نترك الأصل ونمسك فى الفرع فى كثير من أزماتنا التى تتكرر دون ابتكار أو ابداع فى الطرح.. نحن فى حاجة، أولاً، الى انهاء ثقافة “الاستثناء”..!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة