قرأت معظم كتب المرحوم/ هيكل، وبعضها قرأته عدة مرات، وكنت فى صغرى مواظبا على قراءة مقاله (بصراحة) رغم صغر سنى نسبيا وقتها
• قرأت معظم كتب المرحوم/ محمد حسنين هيكل، وبعضها قرأته عدة مرات، وكنت فى صغرى مواظبا على قراءة مقاله (بصراحة) رغم صغر سنى نسبيا وقتها، وكنت أسمعه يوم الجمعة من الإذاعة، وكنت أفهم بعضه ولا أفهم أشياء كثيرة منه لعدم تعمقى السياسى وقتها، ولكن فترة السجن أتاحت لى التجول بعمق فى عقل هيكل وفكره والتأمل فى إيجابياته وسلبياته وحسناته وأخطائه.
• وهيكل كغيره من الشخصيات العامة وقع بين مطرقة تقديس محبيه وتلاميذه، وبين سندان تبخيسه وغمط تميزه وتفرده وإنجازاته من قبل خصومه.
• والحقيقة أن مصر كلها الآن تقع بين فكى كماشة التقديس المضل والتبخيس المخل، وسواء اتفق البعض مع المرحوم هيكل أو اختلفوا فإنه سيظل الصحفى المصرى الوحيد الذى وصل للعالمية والذى كتب لصحف العالم الكبرى، والتقى كل صناع القرار المؤثرين فى العالم، والتقى معظم مفكرى العالم وفنانيه وكتابه، والوحيد الذى انتشرت كتبه السياسية باللغتين العربية والإنجليزية فى العالمين العربى والغربى، ومن القلائل الذين كتبوا فى السياسة بلغة أدبية رصينة تمثل السهل الممتنع، وتعد كتبه نافذة مهمة للغرب والشرق لمعرفة شئون الشرق الأوسط عامة ومصر خاصة.
• والبعض يعتقد أن قربه من السلطة فى بعض فترات حياته هو سر هذا النجاح الكبير الذى حققه هيكل فى حياته.. وهذا غير صحيح فكلنا يرى صحفيين وكتابا فى كل العصور كلما اقتربوا من السلطة كلما ازدادوا فشلا وغباء، وكلنا يعرف بعض الصحفيين المقربين من مبارك «كان الذين يكتبون لهم أكثر من الذين يقرأون كتاباتهم».
• فقد كان هيكل غاية فى الذكاء الاجتماعى والإنسانى أكثر من السياسى من وجهة نظرى، فصنع علاقة شديدة الإحكام بينه وبين الحاكم.. وحافظ على مسافة من الاعتزاز بنفسه وملكاته تحول بينه وبين أن تذوب شخصيته فى شخص الحاكم أو ينزلق فى وصلات نفاق فج له، أو يتخذه الحاكم مطية من مطاياه.
• فقد كان يرى نفسه صنوا للحاكم وفى نفس الوقت لا يحب الاصطدام بالحكام لأنه يدرك بأسهم وسوء عاقبة غضبهم.. وقد ساعده على ذلك يقينه أنه أكبر من المناصب، فلم يسع إليها أو يجرى خلفها مثل كثيرين، لأن ذكاءه الاجتماعى والإنسانى علماه وأخبراه أن موقع المفكر والموجه الحر أعظم من أى منصب يدخله دائرة البيروقراطية المصرية التى تبتلع أى مفكر وتطمس عقله.
• أما الذى حيرنى طويلا فى حياة المرحوم هيكل فهو توصيف علاقته بالرئيس عبدالناصر وموقعه منه.. وأرى أن هيكل هو الملهم غير المباشر ومن وراء ستار لعبدالناصر.. وكان يلعب دور الأستاذ والمعلم له دون أن يشعر الأخير بذلك، على طريقة «بيدبا الفيلسوف» مع «دبشليم الملك» فى «كليلة ودمنة» حيث كان الفيلسوف ينصح الملك بطريقة غير مباشرة بأن يقص له قصصا رائعة تعلمه طريقة الحكم السديدة على ألسنة الحيوانات والطيور.. وهى طريقة رائعة لمن يقترب من الحكام ويريد نصحهم.
• وهناك روايات تاريخية سردها هيكل نفسه فى كتبه دون أن يدرى تؤكد ذلك.. ومنها استقدامه لعدد من المفكرين الاشتراكيين من الهند ويوغسلافيا وغيرها جلسوا شهورا مع ناصر ــ فى شبابه وفى بدايات حكمه ــ تولوا إقناعه بكل ما ذهب إليه من اشتراكية وشمولية واهتمام بالعدالة الاجتماعية على حساب الحريات العامة والديمقراطية وتداول السلطة.
• وقد كان هيكل يملك إمكانيات قريبة من «بيدبا الفيلسوف» فى طريقة العرض والإقناع وربط المعلومات بعضها ببعض بما يستطيع به إبهار عبدالناصر وتعليمه أيضا بطريق غير مباشر.
• ولذلك يعد هيكل من وجهة نظرى شريكا لعبدالناصر فى انجازاته وإخفاقاته وانتصاراته وهزائمه، ويعد دفاعه المستمر عن ناصر والغفلة عن كل عيوب عصره هو دفاع عن نفسه فى المقام الأول.
• وأنا لا أميل لرؤية من ينظر للعلاقة بين هيكل وناصر «رحمهما الله» على أنها علاقة صحفى بحاكم يسوق له مشروعه السياسى بأسلوبه الرائع وتزيينه للناس وإظهار حسناته والتغافل عن أخطائه، لأن هيكل من وجهة نظرى كان يرى نفسه أكبر وأذكى وأفضل من ذلك، وهو دوما شديد الاعتداد بنفسه لأنه يحمل بذور وثمار الشخصية الصعيدية العنيدة المنحدرة من مدينة ديروط، فضلا عن أن هذه المهمة يمكن أن يصلح لها من دونه بكثير.
• أما الشىء المحير فى حياة هيكل علاقته بالسادات، فقد استعان به السادات كثيرا فى بداية حياته وخاصة فى التخلص من مراكز القوى وهيكل هو صاحب هذه التسمية، وهو عبقرى فى نحت المصطلحات الجديدة سواء كانت صحيحة أو خاطئة، ولكن الجفاء حل بينهما فأخطأ السادات خطأ العمر بسجنه لمدة شهرين كانت قابلة للزيادة لولا وفاة السادات.. فرد هيكل بأن أهال التراب على تاريخ السادات كله، فحول نصر أكتوبر إلى هزيمة، وتحرير سيناء إلى فشل سياسى، فى الوقت الذى اعتبر أن هزيمة 5 يونيه هى نصر، وأن عبدالناصر لم يكن السبب الرئيسى فيها بل حملها لعامر بذكاء نادر.
• لقد أخطأ السادات وهيكل كلٌ فى حق الآخر.. «رحم الله ناصر والسادات وهيكل»، فكل منهم كان يريد خدمة وطنه بالطريقة التى رآها فأصابوا وأخطأوا مثل كل البشر.. وهم الآن عند الله الغفور الرحيم الودود الذى يجازى على السيئة بمثلها ويجازى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة