عندما ترتكب أحد أجهزة الدولة خطأ ، فمن المهم أن تبادر سلطتها بالاعتذار .. لأن الاعتراف بالذنب فضيلة .. لا شك فى ذلك ..
عندما ترتكب أحد أجهزة الدولة خطأ ، فمن المهم أن تبادر سلطتها بالاعتذار .. لأن الاعتراف بالذنب فضيلة .. لا شك فى ذلك .. والاعتذار عن الخطأ شجاعة .. لا جدال فى ذلك .. وفى أحيان كثيرة يمسح الاعتذار آلام الضحية بل ورغبتها فى الانتقام، وذلك أمر جيد من أجل تحقيق سلام المجتمعات .. ومن المؤكد أنه لا يوجد شخص معصوم من الخطأ ، وأن أفضل المخطئين هم أولئك التائبون عن خطئهم ، ولكن يجب أن تكون التوبة نصوحاً حتى تكون مقبولة ..
والتوبة النصوح فى أبسط تعريف لها هى تلك التوبة التى تقر بالخطأ مع نية عدم تكراره ، وبالتالى فإن التوبة عن خطأ متكرر ومتعمد لا يمكن وصفها بذلك الوصف، وإنما يمكن اعتبارها نوعا من ـ الضحك على الذقون ـ بل تكون التوبة فى هذه الحالة خطأ أبشع من الخطأ الأصلى لأنها تتضمن على خداع الضحية بالاعتذار عن الخطأ مع ثبات النية على تكراره .
ومن المفترض ألا يضطر الإنسان الراقى المتحضر إلى الاعتذار ، على أساس أنه يراعى دائماً فى أقواله وأفعاله أرقى معايير السلوك ، وهو يحرص على ذلك ليس لمجرد تفادى الإساءة إلى الآخرين ، وإنما ـ وهو الأهم ـ عدم الإساءة إلى نفسه ، ولا يمكن أن نتصور إنساناً يتصف بالتحضر والرقى يضطر كل حين إلى الوقوف موقف المعتذر ، لأن ذلك وحده ينفى عنه صفة التحضر والرقى ، بل ويكشف أن هذه الصفة مجرد ستار تختفى خلفه حقيقته الوحشية ، ولا يعنى ذلك بأى حال من الأحوال أن احتمال الخطأ والسهو غير وارد ، ولكن ذلك يجب أن يكون الاستثناء وليس القاعدة .
والدول ـ كالأفراد ـ تصيب وتخطئ ، ويمكن أن تتوب وتعتذر ، ولعلنا لا نزال نتذكر الصور التى نشرت لتعذيب العراقيين فى سجن أبو غريب على أيدى جنودأمريكيين ، أن تلك الصور التى نشرت حول وسائل التعذيب المستخدمة ضد الأسرى العراقيين تكشف إلى أى مدى من الممكن أن تصل درجة الانحطاط الإنساني، وكان من اللافت للنظر صورة هذه المجندة الأمريكية وقد ارتسمت على وجهها كل علامات السعادة والغبطة، وهى تمارس أحط أنواع التعذيب ، إنها صورة مقززة لا يمكن احتمالها ، ولا أتصور أن أى إنسان طبيعى يمكنه أن يتصرف على هذا النحو ناهيك عن شعوره بالسعادة لهذا التصرف ، وتكون المصيبة أشد حين يكون هذا الإنسان امرأة يفترض فيها أنها كائن رقيق المشاعر عذب الأحاسيس .
ولقد اعتذر بعض مسئولى الحكومة الأمريكية وعلى رأسهم الرئيس بوش (وإن كان بعد تلكؤ) ، ولكن لم يعتذر وزير الدفاع المسئول عن هؤلاء الجنود المتهمين ، وقد كان أمرا طيبا أن تسارع أمريكا بالاعتذار ، رغم أنه حتى بعض المعلقين فى أمريكا أعتبروا أن هذا الاعتذار كان متأخراً جداً وقليلاً جداً (Too little , Too late) ، إلا أن شجاعة الاعتذار عن الخطأ يجب أن تحسب للمخطئ كما أسلفنا ، والسؤال هنا هل يكفى مجرد الاعتذار ؟؟ ..
الاعتذار يعنى اعترافاً بخطأ ، والخطأ يعنى وقوع ضرر ، والضرر له شقان : شق معنوى وشق مادى ، وقد يعالج الاعتذار جزءاً من الشق المعنوى ، ولكن ماذا عن شقه المادى ؟ ، إن الجنود الذين ارتكبوا هذه الحماقات يجب توقيع أقصى العقوبات عليهم ، إلا أن ذلك وحده لا يعد فى التطبيق القانونى الصحيح تحقيقاً للعدالة ، لأن هؤلاء الجنود مجرد تابعين لقادة ومسئولية القادة أشد من مسئولية الجنود ، ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء القادة يتبعون وزارة لها وزير تتركز فى يده المسئوليات كلها ، ولا شك أن جريمة بهذا الحجم تستدعى ليس فقط محاسبة الجنود وإنما ـ وهو الأهم ـ محاسبة كل من هم فى تسلسل القيادة إلى أعلى مستوياتها ، وكذلك يتطلب استيفاء الشق المادى تعويضاً مادياً لضحايا هذه الجرائم يتناسب بدوره مع حجمها ، علماً بأن جرائم التعذيب وفقاً للقانون الدولى الجنائى لا تسقط بالتقادم .
لذلك فقد تطور القانون الجنائى الدولى منذ محاكمات نورمبرج لقادة المانيا النازية ، وصولاً إلى المحكمة الجنائية الدولية ، إلا أن أهم قاعدة تم إقرارها فى نورمبرج لا تزال هى محور الاتهام الرئيسى ، وأعنى بذلك قاعدة مسئولية الفرد عن جرائمه ، فلا ينبغى لضابط أو جندى أن يتنصل من الجرائم التى ارتكبها بحجة أنه مجرد منفذ للتعليمات ، أو أنه فعل ذلك دفاعاً عن الوطن .. لا يمكن التحجج بذلك فى جرائم التعذيب أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب .. بل إن أحد وزراء النازى قد تمت إدانته لمجرد تصريح يتيم طالب فيه بإبادة الشواذ !! ..
أخشى أن حالة السيولة التى تجتاح تصريحات بعض المسئولين قد تورطهم مستقبلاً فى جرائم يمثلون بسببها أمام محاكم وطنية أو دولية ، وأظن أنه يكفى فقط النظر إلى قضية الرئيس السودانى عمر البشير الذى وجهت إليه المحكمة الجنائية الدولية تهمة التحريض على إبادة أهل دارفور .. مجرد التحريض .. رغم أن الرجل كان يصدر أوامره لقواته لمواجهة تمرد أهلى ..إلا أن القانون كما قال الفقيه فؤاد المهندس ـ ما فيهوش زينب ـ ..
وربما ظن البعض أن ـ العدالة الانتقالية ـ قد تتكفل بإفلات بعض المسئولين من جرائمهم مثلما حدث فى جنوب إفريقيا ، أو رواندا .. والحقيقة أن ذلك عشم إبليس فى الجنة ، لأن الفرصة للأسف قد فاتت بالنسبة للبعض ، خاصة أولئك الذين ارتكبوا جرائمهم فى زمن ماض ، ثم عادوا ليستأنفوا نفس الجرائم فى الحاضر أيضاً ..
لكل ذلك أتمنى أن يثوب البعض إلى رشدهم قبل أن يفوت الأوان ، حين لن ينفع ندم أو اعتذار .. جرائمكم لن تسقط بالتقادم ...
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة