كان يمكن للحرب العالمية الثانية أن تكون فاصلا فى التاريخ الحديث، لو ان ما وعدت به الولايات المتحدة التى خرجت منتصرة من الحرب كان صادقا
كان يمكن للحرب العالمية الثانية أن تكون فاصلا فى التاريخ الحديث، لو ان ما وعدت به الولايات المتحدة التى خرجت منتصرة من الحرب كان صادقا وليس عرقوبيا، فهى بشّرت بحقبة ما بعد الاستعمار او تصفيته، لكنها سرعان ما بدأت ترث الامبراطورية التى غابت عنها الشمس وتحاول ملء الفراغ، فالسياسة كالطبيعة قدر تعلق الامر بالتمدد لملء ايّ فراغ، لكن مثقفى اوروبا فى تلك الأونة ومنهم جان بول سارتر حولوا البشير الى نذير وكتبوا عن الاستعمار الجديد الذى يبدل الأقنعة والأساليب وربما الادوات، وهذا بالفعل ما حدث، فقد ذكر هنرى كلود فى كتابه الى اين يسير الاستعمار الامريكى ان الرئيس تافت كان قد اعلن مانفستو الاستعمار الوريث على نحو مباشر وقال ان من المفيد اقرار سياسة امريكية ذات تدخل فعال لتأمين البضائع والرساميل وفرص الاستثمار، هكذا كانت تلك الاستراتيجية المعلنة والتى كرّسها روزفلت بخطاب شهير قال فيه ان قدر امريكا هو امركة العالم بمثابة مسمار جحا، فهو الذريعة التى استخدمتها امريكا للتدخل فى شئون دول بمختلف القارات، وما قامت به امريكا بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن سوى امتداد لنزعة العدوان والتمدد بدءا من إنشاء جمعية اسيوية اصدرت صحيفة فى بوسطن، بعد ذلك بأقل من اربعة عقود اشترى وزير خارجية امريكا اليان سوارد الاسكا من القيصر الروسي، وحاول شراء ممتلكات الدانمارك فى جُزُر الانتيل ولكى يبدد العجب بالنسبة لمن يتساءلون عن السبب فى استخفاف امريكا بالعرب لا بد من التذكير بأمثلة منها ما كتبه سترويخ وهو مبشر بروتستانى : ان العنصر الانجلوساكسونى هو الذى اختاره لله لتمدين العالم والارتقاء به وتحريره من التوحش، ويذكر كلود جوليان فى كتابه الامبراطورية الامريكية ان هنرى لودج اعلن على الملأ ان الله خلق الامريكيين لكى يقودوا العالم فهم الاجدر بالحكم لكى يتمكنوا من ادارة الشعوب البربرية التى بلغت الشيخوخة ! واذا اضفنا الى هذه العيّنات التى هى غيض من فيض مما كتبه المستشرقون الامريكيون فان المشهد يصبح ساطع الوضوح، فمن اولى اذن بمراجعة مخزونه الثقافى ومناهج تعليمه فى المراحل الدراسية الاولى نحن ام هُمْ؟ ولو شئت ان اقدم نماذج من صورة العربى فى الذاكرة الامريكية لما اتسع لها هذا المقام، وقد يكون ما قدمه الراحل ادوارد سعيد فى كتابه الاستشراق كافيا لايضاح الصورة القبيحة للعربي، فهو خائن وكاذب ومتوحش ولا يؤتمن حتى على ذويه، وحين وقع زلزال مانهاتن عام 2011 كان مناسبة لايقاظ الهاجع من عدة فوبيات وليس الاسلامفوبيا فقط، وعاد الاستشراق لكن هذه المرة وهو يرتدى الخوذة، ولم يعد مضطرا ان يتماهى مع الشرقى وبالتحديد العربي، ويتقن لغته ويرتدى زيه كما يفعل الصيادون للايقاع بالفريسة، فالاستشراق منذ الحرب على افغانستان والعراق اصبح عسكريا بامتياز، تماما كما ان الدبلوماسية تعسكرت ايضا ولم تعد ناعمة، وخير شاهد على ذلك ما فعلته كونداليزا رايس عندما هبطت فى مطار بغداد بعد احتلالها وسقوط نظامها، فقد التقطت خوذة ضابط ووضعتها على رأسها، والفعل بحد ذاته رمزى وليس فولكلوريا كما تصور البعض، والاستشراق العسكرى ليس حفيد الاستشراق الكولونيالى بل هو ابنه البكر، لأنه استثمر كل محاصيله ومنجزاته وأصبح اللاوعى فى الغرب مسكونا باأشباح ليست بشرية هى صناعة الميديا المسلّحة التى وضعت التكنولوجيا فى خدمة الميثولوجيا، وحين قال ادوارد سعيد ان الشرق هو بدعة الغرب اختصر المسألة كلها لأن الاستشراق خلق جغرافيا افتراضية وتضاريس رسم خطوط طولها وعرضها على هواه.
انهم يروننا كما يريدون وفقا لما يسمونه Wishful thinking وليس كما نحن، لهذا فإن الدم العربى بالنسبة اليهم ذو تسعيرة محلية متدنية القيمة، وليس له اية قوة شرائية قد تعلقها بالاستحقاق والاستقلال والسيادة.
وما كان اللواسب« وهو مصطلح يزاوج بين الابيض والانجلوساكسونى والبروتستانت ان يمارس نفوذه خارج القانون إلا بفضل ذلك الموروث الذى قدمنا عينة منه فى بيان هنرى لودج . ومن علّم اطفاله ان العقل العربى pre logical، سيكون مثيرا للسخرية اذا طلب منهم بعد ان يصبحوا سفراء وجنرالات ان يتعاملوا مع العربى كندّ لهم، وما تراكم خلال قرون لا يمكن تصويبه حتى فى عقود، خصوصا اذا قدّم التاريخ فى ذروة جنونه مناسبات لاستدعاء ذلك الاحتياطي، واذكر عبارة للفيلسوف هيجل ترجمت الى الانجليزية والفرنسية ولم تعد حكرا على الالمانية طالما استشهد بها من يرون فى العربى نموذجا للعقل القاصر واللامنطقي، هى ان احد الفقهاء العرب قرأ كتابا اربعين مرة واعترف انه لم يفهم شيئا منه فأى عُسر هضم عقلى هذا؟ او ما كتبه دى بور عن العرب الذين لم يأخذوا من هوميروس غير جملة واحدة هى ان يكون الحاكم فردا! ان من يتلقون فى مدارسهم او فى الكتب التى يطالعونها عن العرب مثل هذه الافكار لا بد ان يشعروا بقدر كبير من الاستخفاف بهم، والطيار الذى يعتبر تدمير قرية فى العراق مجرد خطأ او صاروخ سقط سهوا هو وريث طيار احال هيروشيما وناجازاكى الى جحيم ارضي، ووريث جنرال احرق قرية فيتنامية بكل من فيها بذريعة إنقاذها! ولعلّ ما تتعرض له الولايات المتحدة من نقد يأتى من داخلها يدفع اداراتها ومؤسساتها الى اعادة النظر فى الكثير من القضايا، لأنها لم تفلح فى خلق توازن بين القوة والعدالة كما يقول برجنسكى مستشار الامن القومى الاسبق، وتوقف عما اطلق عليه صاموئيل هانتجتون حرفة اختراع الاعداء، بعد ان اتاحت لها العولمة فى اشد تعريفاتها سلبية ونزوعا للاحتكار والاستحواذ ان تحذف مصطلح السيادة من معجمها السياسي، بحيث يصبح التدخل فى شئون الدول خصوصا المصنفة بدول الجنوب امرا مشروعا لكن وفق شريعة تحتكم الى فائض القوة.
حين كان الاستشراق مُتأنقا بالقبّعة والعصا حقق اهدافا ثقافية وسياسية وقدم التقارير عن احوالنا واقترح الوصفات المناسبة لتكريس التبعية، لكنه حين ارتدى الخوذة واصبح دليلا للناتو فى سماواتنا كما فعل برنارد ليفى اصبح عسكريا بامتياز، وهناك حكاية ذات مغزى رمزى تفرض نفسها فى هذا السياق، وهى ان نيبور عندما ذهب الى الاسكندرية كان يحمل اسطرلابا، يقرّب المسافات لكنه يقلب المشاهد رأسا على عقب وحين طلب بعض المارة ان ينظروا من خلال الاسطرلاب اصابهم الذعر لأنهم رأوا الفنار مقلوبا والناس يمشون على رؤوسهم، ورغم ان الحكاية رمزية إلا انها تختصر ردود الفعل العفوية والقومية لدى اناس ادركوا بالفطرة ان هناك فارقا حاسما بين الزائر والجاسوس وبين من يبحث عن ماء دافئ لاستحمامه ومن يبحث عن مجالات حيوية لأساطيله وتمدده الامبراطوري.
ان صورة العربى فى الذاكرة الانجلوساكسونية كما لخّصها ادوارد سعيد هى المرادف للعنف والخيانة والتوحش، وما نخشاه ان تكون هذه الصورة قد تسللت الى العقيدة العسكرية، بحيث لا يشعر الطيار الذى يقصف مدرسة او مستشفى او جنازة او حفلة زفاف بأى ذنب، لأن ضحاياه من سلالة اخري، ودمها لا أثر للزرقة فيه!!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة