دموعٌ لا حصر لها فى حياتنا، دموعُ السعادة والفرح دموعُ الخوف دموعُ الألم والألمُ أنواعٌ ثمَة ألمٌ عاصرٌ للنفسِ وآخرٌ قارصٌ يجتاحٌ الجسد
دموعٌ لا حصر لها فى حياتنا. دموعُ السعادة والفرح. دموعُ الخوف. دموعُ الألم والألمُ أنواعٌ. ثمَة ألمٌ عاصرٌ للنفسِ، وآخرٌ قارصٌ يجتاحٌ الجسدَ اجتياحا. فى الأحوال كلها تمتلئ أعيننا بماء مالح، يُقال إن تركيبه ومحتواه يختلف باختلاف السبب وتبايُن الدوافع.
كثيرا ما بكينا صغارا، صبيانا وبناتا. نلعب ونقع ونصاب بالجروح ونسرع لنسكب دموعا غزيرة أمام أهلينا؛ خوفا مِن العقاب على الرعونة، وتوجُعا مِن خربشات الأرض وكدماتها؛ توزعها علينا بكرمٍ وجود. تلك دموعٌ طالما جَفَت سريعا، أزاحها اللهو وحلَت مَحَلَها الضحكات. ليس سرا أن المرأة أميل مِن الرجل إلى البكاء، ربما لجيشان انفعالاتها، وسهولة استثارة عواطفها، أو ربما لتفوُق غددُها الدمعية عددا وقدرة وأداء على الرجال، مع ذلك لا أذكر أن هذه الفوارق انعكست فى سنوات الطفولة. كلنا بكى، وتأوه وتقلَصت ملامحُهُ وأطلقَ لدموعه العنان.
بعض الناس يدمعون فى مواقف البهجة والانتصار. يحيلون مناسبات الاحتفال إلى لحظات مُلتبسة، تختلطُ فيها المشاعرُ ويرتبك التعبير. هناك مَن إذا حزن بكى وإذا فرح أيضا بكى، ويبقى محتوى الدموع مُختلفا مِن حالٍ إلى حال.
***
العينُ الكليلة تكابدُ أثرَ السهر فتدمع ويشتدُ بها الاحمرار، والعينُ المعتلة تفرز طوفانا مِن الدموع تدفع به عن نفسها الأذى. أذى الغبار والعادم والجسيمات الغربية التى قد تخترق حرمَها. تدفعُ أذى الكائنات الدقيقة التى قد تتطفَلُ عليها. تحاول العينُ بتركيبات كيميائية متنوعة أن تنتصر فى معاركها. تدفع بهذا الطوفان أيضا وقع الأذى النفسى عن صاحبها، ففى ذرف الدموع تفريج للكربِ والهم.
وُصِفَت دموعُ التماسيح كرمزٍ للنفاق وإظهار ما يجافى الباطن. يبكى التمساح عند التهام فريسته وكأنه يأسى لمآلها بين أسنانه التى لا منجى منها، وهو فى حقيقة الأمر يمارس ببكائه فعلا وظيفيا لا إرادى، يتعلق بحركة الفك واستجابة الغدد الدمعية لعملية المضغ، دون أن تكون لدمعاته الكبيرة علاقة بعواطف أو مشاعر وأحاسيس.
شُحُ الدمعِ وجُمود المآقى قد يصبح المُنتهى بعد طول نحيبٍ وبكاء، وربما ينتج كذلك عن صدمةٍ فادحةٍ تغلق الباب أمام رد الفعل التلقائى فى الأزمات، وتصدُ مظاهره الطبيعية. شَدَت أم كلثوم آراك عصيَ الدمع، فكانت أبيات أبى الفراس الحمدانى أبلغ وصف لمن يكابدون الهوى ويأبون الإفصاح عما بهم مِن لوعة واشتياق، ويحرمون نفوسهم الراحة ولو مِن خلال دمعاتٍ قليلة. ربما يكون غياب الدمع أيضا لخجلٍ مِن أن يراه الآخرون، فيعدونه علامة ضعفٍ وانهزام، ويغدو لصاحبه بمثابة إهانة.
دموع الحزن الممزوجة بمشاعر القهر قاسية ثقيلة. يقولون إنها لا تصلح لرجل يُفتَرضُ به أن يحتفظ بهيئته قويا، رابط الجأش فى مواجهة الملمَات والشدائد. يمتعض أغلب الناس لبكاء الرجال، لكن بن الرومى لا يرى فى الأمر بأسا، لما لا وهو القائل: لم يُخلَق الدمعُ لامرئٍ عبثا *** الله أدرى بلوعة الحَزَنَ
***
رأيت دموعا كثيرة فى حفل تأبين عالِم لُغوى قدير. مِن رفاقه مَن رثاه وسط دمعات أبت الاحتباس، ومنهم مَن استفاض صَلبا مُتماسكا فى بيان أثره وفضله، ثم لم يلبث أن أجهش بالبكاء فى نهاية كلمته، فذابت المناشف الورقية فى فيض عينيه. قلَما رأيت مِنصة تبكى، وقد وَشَت كلمات مَن عليها بأن وراء الدمع ما هو أبعد مِن ألم الفراق، ووجع الرحيل المُفاجئ، لاح الماءُ المُنسَكِب مِن المآقى شديدَ الملوحة، عصيا على التجفيف. قال أصحاب الراحل ورفاقه فى القاعة الممتلئة عن آخرها بمَجمَع اللغةِ العربيةِ، إنهم خشوا قبل وفاته أن يُتهم كآخرين بعلو الصوت، وأن يُستوف معه الحساب تحت المائدة لا فوقها وهو ما كان. قالوا بين الدمعات والنهنهات إنه برغم ما لحقه مِن ضيمٍ مات واقفا، مُكتمِلَ الهيبة، مَوفورَ الكبرياء، فثمَة مَن ينتصرون على قَتَلَتهم بموقف الموت وحده. لم يفصح أحدهم عن تفاصيل ما جرى وهوية مَن بغى، لكن الأمر كان مَعلوما والصمت عنه أبلغ تعبير عن الاحتقار. قلت فى نفسى هذا رجلٌ مات قهرا فلا أقل مِن تأبينه بما يليق مِن العَبَرات، وبقطوف مِن الحزن يغزلها مُحبوه، وما أنبلَ دمعا يفيض على صاحبِ عِلمٍ مات حرا، مُبرأ مِن حظوةٍ عِندَ الحاكمين.
أنشد رئيسُ مجمع اللغة العربية أبياتا ينعى فيها الرجل، فأدركت أن مِن الكبار مَن لا يزال ينظم القصائد والأشعار رثاء للراحلين. جاء فى قصيدته على غير ترتيب:
نشيجٌ صامتٌ وبكـــــــــــــــــاءُ عينٍ * * * تجمَد دمعُها بين البُكــــــــــــــــــاةِ
أَمَرُ الدمعِ ما انعقدت حصاهُ * * * فيحرقن القلوبَ مُقرَحاتِ
ظننت وأنت فى جَنْبى حفيـــــــــــــــــــا * * * بأنَا صُحبةٌ حتى الممـــــــــــــــــــــــاتِ
إذا ما شِمْتُموا منى ابتسامـــــــــــــــا * * * أَعِدُوا أنفُســا للمُبكيـــــــــــــــــاتِ
تبسَمت وسط مياه غامت بها عيناى وضَبَبَت الرؤية، موتُ عالمٍ راسخ الأقدام حدثٌ جللٌ ترتجُ له أفئدةُ العارفين ويمرُ به أصحابُ الجهالةِ مرورَ الكِرام. هذا بلد يموت فيه العلماءُ كمدا، فلا ترثيهم سوى قِلَة عرفت أقدارهم، ولا يدرى بهم المسئولون. هذا بلدٌ دموعه سخية وافرة لكنها كثيرا ما تضلُ الطريق.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة