البابا فرانسيس .. رمز الكنيسة الكاثوليكية الذي تحيط به كل هالات الاحترام، وجد نفسه دون أن يدري في "خناقة شوارع" ومع من؟.
البابا فرانسيس .. رمز الكنيسة الكاثوليكية الذي تحيط به كل هالات الاحترام التي تصل أحيانًا إلى حد التقديس، وجد نفسه دون أن يدري في "خناقة شوارع"، ومع من؟ دونالد ترامب المرشح الجمهوري للرئاسة، الذي وصفه منافسه جيب بوش بأنه يشق طريقه للحصول على ترشيح الحزب بسبّ وإهانة الآخرين.
بدأت الحكاية بسؤال للبابا أثناء زيارته للمكسيك عن دعوة ترامب لإقامة حائط أو جدار عازل بين أمريكا والمكسيك التي يبررها بمنع الهجرة غير الشرعية، وما يصحبها من مرور المخدرات والمجرمين من المكسيك إلى أمريكا.
حاول البابا أن يبتعد عن الجانب السياسي في الموضوع وقال، إنه لا يدعو الناس للتصويت بطريقة أو بأخرى، ثم عاد ليقول ما هو أقسى عندما وصف أيًّا من يدعو لإقامة الجدران و ليس بناء الجسور بين الناس بأنه ليس مسيحيًّا ولا يتبع تعاليم الإنجيل.
ولم يخالف ترامب توقعات متابعيه ومؤيديه، فليس هو من يغلِّف عباراته العنيفة بالمحسنات والمخففات، خرج بعدها ليصف تعليق الحبر الأعظم بأنه "مُشين"، وأنه لو تعرض الفاتيكان لهجوم من داعش فإن البابا ساعتها سيتمني لو كان هناك الرئيس ترامب لمواجهتهم.
وحتى لا يعتقد أحد أن كلماته خرجت انفعالية دون قصد، فإن ترامب ـ على غير عادته ـ لم يرتجل وقرأ من كلمة مكتوبة، أي أن هجومه على البابا كان محسوبًا ومقصودًا.
في المساء كان ترامب على موعد مع لقاء جماهيري مذاع في شبكة سي إن إن، حيث سأله المذيع أندرسون كوبر: أنت تتشاجر مع الجميع ... لكن البابا؟؟؟ ضحك الجمهور وترامب الذي حاول أن يخفف من لهجته بإلصاق المشكلة بالحكومة المكسيكية، وأنها هي التي ربما أبلغته بالأمر بطريقة خاطئة، وقال: إنه عندما طالع كلمة البابا بالتفصيل وجدها أقل حدة مما كانت الأنباء قد تناقلته. هذا الكلام بالطبع غير صحيح؛ لأن تصريح البابا كان مذاعًا بالصوت والصورة ولامجال لإساءة الفهم أو التحريف، وحتى لو كان ذلك حقيقيًّا، فكيف لمرشح رئاسي يريد أن يجلس في المكتب البيضاوي أن يتسرع في الإساءة لبابا الفاتيكان دون التأكد مما قال؟
في اليوم التالي خرجت صحيفة نيويورك بوست بصورة كارتونية للبابا وترامب كأنهما في مباراة ملاكمة.
المدهش في الأمر أن ترامب لم يتعرض للهجوم بسبب خروجه على الأسلوب اللائق في مخاطبة البابا، بالعكس دافع عنه الكثيرون، وأولهم جيب بوش الذي لم تتوقف معاركه اليومية مع ترامب، فبوش الذي تحول إلى الكاثوليكية ـ دين زوجته المكسيكية ـ كان من المتوقع أن يساند رمز كنيسته ضد منافسه في الانتخابات الجمهورية، لكنه قال: إن مسألة الدين بين ترامب وخالقه، وليس له ولا لأي إنسان آخر (يقصد البابا) أن يتدخل فيها أو يحكم عليها.
المعلق المحافظ الشهير راش ليمبو كتب تغريدة يشير فيها إلى تناقض البابا: "هو يقول: إن ترامب ليس مسيحيًّا .. فالمسيحيون لا يبنون الجدران... لكن الفاتيكان محاطة بالجدران". وعلى الفور خرجت التعليقات التي تقلد عبارة الرئيس الراحل رونالد ريجان الشهيرة الموجهة لرئيس الاتحاد السوفييتي سابقًا ميخائيل جورباتشوف: "سيد جورباتشوف.. اهدم هذا الحائط"، وذلك في إشارة لحائط برلين.
فقال أحد المعلقين: "إلى البابا: اهدم هذا الحائط".
قد يكون ذلك مستغربًا، فهناك نسبة كبيرة من الكاثوليكيين في الولايات المتحدة الذين لن تروقهم الإساءة للبابا، لكن كل شيء في أمريكا الآن صار مسيسًا، فأغلب الجمهوريين يؤيدون بنسبة كاسحة إقامة الجدار، كما أن نسبة الكاثوليك في الانتخابات التمهيدية القادمة بولاية ساوث كارولينا ليست كبيرة، لكن نسبتهم أكبر بالطبع في ولايات أخري قادمة، وهنا يأتي التفسير الأهم: فالبابا فرانسيس ليس محبوبًا بين الجمهوريين بعد أن أبدي ميولًا ليبرالية واضحة في مواقفه التي خاض بها في مجالات السياسة، فهو يتحدث عن العدالة الاجتماعية والانفتاح على أصحاب العقائد الأخرى، وتبني السياسات الأكثر قربًا من الفقراء والمحتاجين وضرورة مساعدتهم، وكان خطابه بالكونجرس مؤخرًا أقرب لما يقوله المرشح اليساري الديمقراطي بيرني ساندرز في حملته الانتخابية للرئاسة، وحتي في القضايا الاجتماعية كسر البابا الكثير من التابوهات في التعامل مع المثليين وقضية الإجهاض بما أغضب كثيرًا من المحافظين في الفاتيكان وأنحاء العالم.
ومن هنا يشكك الكثيرون في أي آثار سلبية على دونالد ترامب من "خناقته" الأخيرة مع البابا؛ لأنه في انتخابات تمهيدية لحزب يسيطر عليه المحافظون، بل يرى البعض أنه قد يستفيد منها في تأكيد صورته كرجل قوي يعبر بصراحة عما يعتقده.
لكن ماذا عن الانتخابات العامة لو حصل على ترشيح الحزب؟ هنا عليه أن يتعامل مع نسبة أكبر من الكاثوليك الأكثر ليبرالية الذين ربما لم تعجبهم عبارة البابا التي جعل فيها من نفسه حكمًا على مسيحية ترامب، لكنهم بالتأكيد ليس من السهل عليهم التصويت لشخص وصف كلام الحبر الأعظم بأنه "مشين".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة