وترتكز المسائل المتعلقة بالنظم السياسية وأمور الحكم فى الأمم والحضارات على التطوُّر والتحديث المستمر وفق مقتضيات الحضارة والعمران
انقضى عصر نزول الوحى المحمدى بانتقال النبى محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلي، بعد اكتمال الدين والملة
وإرساء القواعد والأسس التى ينطلق منها المسلمون فى تناسق حكيم مع العالم الذى يعيشون فيه بمخلوقاته المتنوعة وأنماطه المختلفة.
ولقد جرت الأمة على احترام الاستحقاقات السياسية والتشريعية التى جرى عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كما بيناه فى المقال السابق؛ حيث أقرَّ غير المسلمين على مرجعيتهم التشريعية، كما اهتم بترسيخ القواعد الشرعيَّة الكلية والقيم والمبادئ العامة الثابتة، مع العناية بتربية الملكات وتوجيه العلماء نحو الاجتهاد فى المسائل والمستجدات وفق هذه القواعد والقيم والمبادئ.
وترتكز المسائل المتعلقة بالنظم السياسية وأمور الحكم فى الأمم والحضارات على التطوُّر والتحديث المستمر وفق مقتضيات الحضارة والعمران، ومن ثَمَّ فهى قائمة على الاجتهاد والنظر؛ لأن «معظم مسائل الإمامة عَرِيَّةٌ عن مسلك القطع، خَلِيَّةٌ عن مدارك اليقين» كما يقول الإمام الجويني.
وهو أمر واضح تظهر سماته وملامحه بعد انقضاء عصر الرسالة فيما كان يفعله الخلفاء الراشدون حين تعرض لهم المسائل والمستجدات، فعن ميمون بن مهران، قال: كان أبو بكرٍ رضى الله عنه إذا ورد عليه الخصم نظر فى كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به، فإن لم يكن فى الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتانى كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى ذلك بقضاء؟
فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من النبى صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكان عمر رضى الله عنه يفعل ذلك ويوصى به عمَّاله على الأقاليم، وهو واقع تشهد له المسائل المنقولة عنهم، وهى كثيرة، منها: ميراث الجدة، وحد شارب الخمر، والجناية على الجنين فى بطن أمه ويسميها الفقهاء «الإملاص والسقط»، وقسمة الخراج فى البلاد التى فتحت عنوة وقتها.
ورغم بذلهم الجهد فى طلب الأحكام الشرعيَّة من مظانها، نجدهم ينسبونها إلى أنفسهم، ولا ينسبونها إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قد جاءت استنباطا واستمدادًا من الأصول والقواعد الشرعيَّة المأخوذة من الكتاب والسنة.
ونلاحظ منذ عهد مبكر فى نظام الدولة أنه بدأت تظهر سمات تأسيس المؤسسات التى فرضتها بقوة مراحل تطور الحضارة والعمران وتحديد مسارات الدولة ومرجعيتها، ومن ثَمَّ كانت هناك مؤسسات مختصة بالأمور السيادية كالجند (الجيش)، والشرطة، وأخرى مختصة بالأمور الاقتصادية كبيت المال والجباية، وأخرى مختصة بالأمور التشريعية والقضائية كالقضاء والمظالم وغير ذلك. وأسهم الفقه الإسلامى بالنصيب الأوفى التشريع بمعناه الواسع على سبيل المجاز لا الحقيقة، توسعا فى دلالته كما انتهى إليه كثير من فقهاء عصرنا، ثم تحول الفقهاء من الاجتهاد المرسل غير معلوم الآليات والضوابط إلى الالتزام بالاجتهاد المنضبط بضوابط وآليات معلومة ومدققة على يد أصحاب المذاهب الأربعة، حتى باتت هذه المذاهب الفقهية هى الممثل للمرجعية الشرعية للأمة حكامًا ومحكومين فى المجالات المختلفة عبر التاريخ، تشريعًا وقضاء وإفتاء وتعليمًا، مما يؤكد أن المرجعية التشريعية للدولة يمارسها علماء متخصصون، لكنهم غير مفوضين من الله تعالى أو يمارسون أعمالهم باسم الإله ولا نيابة عنه، وهم يدورون فى اجتهادهم وفق الثوابت المستقرة والمتغيرات المرنة.
كما أنه يوضح أن مهمة الحاكم فى الأساس ليست تشريعية، وإنما هى مهمة المتخصصين من الأمة من خلال الاجتهاد وفق الضوابط الشرعيَّة والمقاصد المرعية، ورئيس الدولة شأنه فى ذلك كشأن مجتهد من المجتهدين. وما أوردناه كافٍ للتدليل على الانسجام بين الثابت والمتغير بشأن المرجعية الشرعية للدولة فى السياسة الشرعيَّة فى عصر الرسالة وما بعده حيث الالتزام بأصول التشريع وثوابته، وفى ذات الوقت توسيع مساحة العقل البشرى للتطور والإفادة من التجارب الإنسانية وفق الأولويات والمقاصد، مع إتاحة المجال للتعددية والتنوع واحترام الحريات والحقوق.
وفى ذلك ردٌّ عمليٌّ على شبه أُلصقت بالسياسة الشرعيَّة وفقه الدولة فى الإسلام بأن رئيس الدولة هو الحاكم بأمره يُشرع باسم الله استقلالًا عما تقتضيه مصالح العباد والبلاد وما يرفق بحالهم وفق المقاصد الشرعيَّة المرعية، سواء انتشرت هذه الشبهة تحت مبدأ «الثيوقراطية»، أو مبدأ «لا حكم إلا لله» الذى كان ديدن المتشددين فى كل دين. وسنتابع الحديث عن مرجعية الدولة فى العصر الحديث فى المقال القادم إن شاء الله تعالى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة