إذن فقذ ترجل أحد فرسان صحافة العرب، وأحد شهود أهم وأروع وأبهر حقبة فى تاريخ العرب الحديث، وأحد محللى وناقدى انتكاسة ذلك التاريخ
إذن فقذ ترجل أحد فرسان صحافة العرب، وأحد شهود أهم وأروع وأبهر حقبة فى تاريخ العرب الحديث، وأحد محللى وناقدى انتكاسة ذلك التاريخ وتدهوره السريع إلى مشارف الرُّعب والعبث وهوامش الحياة.
سيرته الذاتية تمتد من الصحافى البسيط المسافر فى أرجاء المعمورة لتغطية الأحداث وإرسال التقارير، مرورا برئاسة تحرير أهم جريدة عربية وأقواها تأثيرا إبان الخمسينيات والستّينيات من القرن الماضى، جريدة الأهرام، مرورا بتقلّد مناصب وزارية فى مصر ومنصب مستشار ورفيق قائد مصر وأمة العرب العروبى الثورى الاشتراكى الفذ جمال عبدالناصر، وانتهاء بالتفرُّغ للعب دور الكاتب الشّاهد على تاريخ الحقبة الناصرية وما كان حولها وما جاء بعدها، وانتهاء بدور المعقّب والمحلّل التلفزيونى لأحزان وآلام وأمراض أمته العربية وهى تدخل القرن الواحد والعشرين الجديد.
وفى أثناء ذلك كله ظل يلعب دور المثقف الملتزم بقضايا مجتمع مصر ومجتمعات العرب فكرا ومواقف وتثقيفا للملايين المعجبين المحبين.
لقد قادته تلك السيرة الذاتية إلى بناء علاقات حميمة مع صناع القرار العرب وغير العرب، وعلى الأخص فى أرض آسيا وأفريقيا. وقادت العلاقات الحميمة إلى الاطلاع على المخبأ والمغطّى بالأقنعة والمكياج، مما جعله فى قلب السياسة، ولكن كصحفى وصاحب رأى فى الدرجة الأولى، وليس كسياسى ممتهن.
***
لكن الكثير مما عرفه واطلع عليه وقابل أبطاله لم يجعله مؤرخا أكاديميا، فقد اختار أن يكون شاهدا على تاريخ هو يعيشه بغثه وسمينه.
وهكذا كان داعية لأهداف ثورة يوليو العظيمة ومساهما مساعدا فيما كتب القائد الملهم جمال عبدالناصر من مثل «فلسفة الثورة» وما ألقى من خطب تاريخية فى المناسبات المفصلية.
وهكذا كان مؤلفا لكتب بالغة الأهمية التوثيقية التاريخية من مثل «خريف الغضب»، و«عبدالناصر: وثائق القاهرة» وغيرها.
وهكذا أيضا اختار أن يظهر فى البرنامج التلفزيونى «مع هيكل» ليضيف الكثير إلى ما كتب فى عموده الأسبوعى الشهير «بصراحة» وما كتب فى المطبوعة الصحفية الدورية «وجهة نظر، وما كتبه فى مؤلفاته العديدة المليئة بالتفاصيل والحكايات والمقابلات والتحليلات.
ولم يخرج إبّان كل تلك الرحلات الصحفية والتأليفية والإعلامية والندوات التثقيفية عن التزامه القومى العروبى، إيمانا بوحدة أمة العرب وبوحدة وطن العرب. فأن يقول لأحدهم بأن من لا يحافظ على سوريا فإنه يفرط بمصر فتلك مقولة القومى العروبى الممتد بصره عبر أرض العرب كلها. وهو أيضا ما يفسر التصاقه الشديد بموضوع الاحتلال الصهيونى لأرض فلسطين وبموضوع حركة نضال شعب فلسطين العربى لدحر الوجود الصهيونى وتحرير أرضه.
***
ما يوجع قلبى شخصيا أننى لم أر الصديق المرحوم منذ زمن طويل بسبب ما مر عليه وعلينا جميعا فى أرض العرب من مصائب وانشغالات وصراعات أبعدت الإخوة والأحبة عن بعضهم البعض، وأشغلتهم وأنهكتهم بعوالم العبث ورد السهام. وهكذا افتقدت دفء صداقته الجميلة وابتسامته الرقيقة الحنون واتزان مشاعره ويقينيّاته إبان الملمات.
وكان ذلك الافتقاد رمزا وإشارة لافتقاد دفء مصر الحبيبة وقاهرتها المتألقة بعبق التاريخ وبإمكانيات المستقبل العربى وبإدخال السّكينة عندما تزداد الشكوك والمخاوف.
لكن ما يخفف الحزن أنه إذا كان المرحوم الكبير قد رحل فإن قاهرته التى أسهم فى بناء روحها وطموحاتها وتجلّيات عروبتها هى باقية، وستبقى عبر العصور والأزمنة.
وما يأمله الملايين من العرب هو أن تتغير قاهرته وقاهرتنا فى القريب العاجل من كونها، كما قال وكتب المرحوم عنها، قد أصبحت مسرح عرائس لتصبح، كما كانت، مسرح أحداث عظيمة يقودها شعب عظيم.
يا أيها الصديق الذى رحل، سيسأل الناس إن كانت لك أخطاء إبّان تلك السّيرة الغنيّة. وسيكون الجواب هو نعم، إذ لم تكن إلا بشرا مجتهدا وفاعلا، ولا يخطئ إلا الذين يحفرون فى الواقع وفى التاريخ.
أمّا نحن، محبّوك، فإننا سنذكر إنجازاتك ومحاولاتك، وسنعرف أنك مثلما كتبت فى التاريخ ستبقى أيضا فى التاريخ طويلا، وستصبح مادة للمؤرخين.
أما الذين كرهوا الدرب النضالى الذى سرت فيه والرايات التى رفعتها فى جوانبه فإنهم لن ينصفوك، بل سيهاجمون بدون وجه حق. لكن هذا قدر من يساهموا فى صنع التاريخ ومن لا يخافون عيش أحداثه. ولقد كتبت يا صديقى يوما كتاب «زيارة جديدة للتاريخ» عن أناس لعبوا أدوارا مؤثرة فى تاريخ مجتمعاتهم. اليوم من حقّك أن تلحق بهم كمؤثّر فى تاريخ بلدك الحديث.
اذكروا محاسن موتاكم. هذا ما تعلمناه إياه الحكمة الإسلامية الرائعة.
نعم، نذكر محاسنك، وإنها لمحاسن كثيرة نستطيع نحن، وبرفقة زوجتكم وأبنائكم وأحفادكم وعائلتكم، أن نفاخر بها أمام أجيال أمتك ووطنك عبر سنين طويلة قادمة.
يا صديقى، عندما سأمرُ، طيلة ما بقى لى من عمر، على ذلك الجسر، فوق ذلك النهر، فى قلب تلك المدينة، وأنظر إلى ذلك المبنى الذى طالما التقينا فيه، فى أجواء الأحاديث والضحك والأمل، ستنزل دمعة الحزن والشوق، وسأتذكر.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة