هناك انسجام تامٍّ بين الثابت والمتغير بشأن المرجعية للدولة في السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة في عصر الرسالة وما بعدها
هناك انسجام تامٍّ بين الثابت والمتغير بشأن المرجعية للدولة في السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة في عصر الرسالة وما بعدها؛ حيث الالتزام بأصول التشريع وثوابته، مع إعطاء العقل البشري مساحة أكبر نحو الإفادة من التطوُّر المستمر الدائب في التجارب الإنسانية وفق الأولويات والمقاصد، رميًا إلي إتاحة المجال للتعددية والتنوع واحترام الحريات والحقوق، وقد أثبتنا ذلك إجمالًا في المقالين السابقين.
وانطلاقًا مما هو متغير لاحظ المسلمون ما درج عليه الناس في العصر الحديث من ضرورة كتابة وثيقة تعريف لنظام الدولة، تكون بمنزلة القانون الأعلي الذي يحدد شكل الدولة والقواعد الأساسية المنظمة لشئونها والكاشفة عن طبيعتها وهويتها وطبيعة نظام الحكم ونمط الحكومة فيها، وتنظيم العلاقات بين سلطاتها المتنوعة، وبيان الحقوق والواجبات الأساسية لكل مواطن بها، مع وضع الضمانات العامة تجاه السلطات الثلاث المكونة لنظام الدولة : التشريعية والقضائية والتنفيذية.
هذه الوثيقة تعارف الناس عليها تحت اسم «الدستور»، وتُعَدُّ نشأة الحركة الدستورية في مصر من المراحل المبكرة جدًّا؛ حيث يُرجعها المؤرخون إلي عقد الصلح الذي حضره الباشا العثماني صالح القيصرلي، وكبار علماء الأزهر الشريف والمفتون ونقيب الأشراف وأمراء المماليك وقادة الفرق العسكرية بتاريخ 15 يوليو 1795م، وقد تضمن بنودًا صريحة في بيان الحقوق العامة وحقوق وواجبات فئات المجتمع، وهي علامة فارقة تشير إلي وعي علماء الأزهر الشريف الناضج وصدقهم الخالص في القيام بمهامهم وخدمة دينهم وأمتهم ووطنهم.
ثم تلاها محاولات 10 أبريل سنة 1879م، ومقترح الإمام محمد عبده في سنة 1904م، ثم دستور 1923م، وفي الأخير خُصّصِت المادة [149]، المندرجة في الباب السادس المختص بالأحكام العامة، بشأن بيان سمات ومحددات الهوية المصرية؛ التي يمثل الدين واللغة أهم رافدين من روافدها، فجاء فيها: »الإسلام دين الدولة واللغة العربيَّة لغتها الرسمية«.
وقد جاء الاقتراح بإدراج هذه المادة في الدستور من فضيلة مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت فضيلة العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي في جلسة 19 مايو 1922م، وتقرر قبوله بالإجماع من جميع أعضاء اللجنة، ثم أعيد عرضه علي اللجنة العامة في 14 أغسطس 1922م، فرأت اللجنة إدماجه في الصياغة مع النص القائل بأن «اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة»، السابق الموافقة عليه في 3 مايو 1922م، ومن ثَمَّ تقرر أن يكون نص المادة الأولي من باب «أحكام عامة»: «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، ووافقت علي هذا النص اللجنة مرة ثالثة في جلسة 3 أكتوبر 1922م. [ينظر: الدستور تعليقات علي مواده بالأعمال التحضيرية والمناقشات البرلمانية، ط. مطبعة مصر سنة 1940م ، 3/ 3381، 3652، 3663، 3678]، ثم استمرت هذه المادة في الدساتير المصرية اللاحقة حتي آخرها الذي نال ثقة الشعب المصري في يناير سنة 2014م، كما نص علي مرجعية غير المسلمين شركاء الوطن في شأن الأحوال الشخصية والشئون الدينية المتعلقة بهم فنص علي أن «مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية».
ولا ريب أن ذكر المرجعية التشريعية للمسلمين وشركائهم في الوطن مؤسس علي نقطة رئيسة أكدها المؤتمر المصري الأول في جلسته المنعقدة بتاريخ 3 مايو سنة 1911م، حيث انبثق عنه من بين قراراته: «قرر بالإجماع أن الأمة المصرية هي في مجموعها كلٌّ لا يقبل التجزئة في الحقوق السياسية، وأنه مع ما لكل طائفة دينية من الحرية التامة في عقيدتها؛ فإن للحكومة المصرية دينًا رسميًّا واحدًا هو الإسلام»، وهذا تأكيده في دساتير مصر المتعددة والمتعاقبة حتي وصل الأمر إلي دستور 2014.
وفي ذلك دلالة واضحة علي اهتمام أهل مصر ببيان مرجعية الدولة، وارتضائهم أفرادًا ومسئولين مرجعية الشرع الشريف في كل ما يختص بالشأن العام والقوانين في البلاد؛ وبموجب هذا النص صارت هناك جهتان مخاطبتان به بالأصالة: السلطة التشريعية، والمحكمة الدستورية، فالأولي من واجبها سن القوانين التي تكون مبادئ الشريعة الإسلامية العامة مستندة إليها ومرجعية أساسية لها، وليست مخالفة أو متعارضة مع نص قطعي منها، والثانية يجب عليها مراقبة هذه التشريعات والقوانين، وإبطالها في حالة انحرافها عن النصوص الدستورية أو مخالفتها لها، فإذا قضت المحكمة الدستورية بمخالفة النص المطعون عليه من نصوص القوانين لمبادئ الشريعة الإسلامية، فمقتضي نص المادتين 48، 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979م أن يكون لقضاء هذه المحكمة في الدعاوي الدستورية حجية مطلقة في مواجهة الكافة وبالنسبة إلي الدولة بسلطاتها المختلفة، باعتباره قولا فصلا في المسألة التي فصل فيها، وهي حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيه أو إعادة طرحه من جديد لمراجعته.
وما سبق يؤكد أن مرجعية الدولة في السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة سنة ماضية في نظام الدولة عبر التاريخ نظرية وتطبيقًا، وهي تتلخص بالنسبة للمسلمين في وجوب متابعة الوحي (الكتاب والسنة) مع المحافظة علي المقاصد الشرعيَّة والمبادئ العليا كرفع الحرج والتيسير والعدل وتحقيق مصلحة المواطنين. أما غير المسلمين فمرجعيتهم هي مقررات دينهم وعقائدهم.
كما تظهر بطلان دعاوي كثيرة تروجها جماعات هدامة من أجل كسب تعاطف المسلمين مع مبادئها وأفكارها الشاذة؛ قصدًا لتحقيق مكاسب شخصية أو هدم الدول وتخريب الأوطان، حيث الترويج إلي أنهم يسعون زعما- نحو جعل البلدان «إسلامية»، رغم أن هذه الشعارات تحمل ظلال الشك والريبة، ولا مبرر لها، وفارق كبير بين الدعوي والحقيقة وبين الاسم والمسمي. فقد تعارض مع ما تقدم واقعًا من ثبوت مرجعية الدولة وبناء ماهية هذه المرجعية علي ما خطه النبي صلي الله عليه وسلم في وثيقة المدينة المنورة التي ستظل نبراسا مضيئا وعلامة فارقة لكل متلمس لبناء المجتمعات وقيام الحضارات .
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة