الموجة الثالثة هى التى تهمنا، وهى التى يؤرخ لبدايتها عند منتصف السبعينيات عندما انتقلت إلى الحكم الديمقراطى بلدان جنوب أوروبا المتوسطية
الديمقراطية مصطلح قديم نشأ عند اليونان فى أثينا، ولكن مفهومه كان جنينيا عندئذ فهو لم يتعد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه حكما مباشرا.
أما هذا الشعب فكان مجرد سكان مدينة واحدة مجتمعين فى ساحتها الرئيسية، ومن ضمن هؤلاء السكان كان الاعتداد بالذكور وحدهم، ومن بين الذكور استبعد العبيد فلم يبق لممارسة الديمقراطية إلا الأثينيون السادة الذكور. مثل كل المفاهيم، الديمقراطية مفهوم دينامى تطور مع ظهور الثقافات وازدهار بعضها وأفول الأخرى، ومع انبعاث الأديان وانتشارها وتفاعلها مع الأقوام وثقافاتهم.
الديمقراطية كما تنطبق فى الدول الوطنية فى العالم الحديث والمعاصر، العلاقة الوحيدة بينها وبين ما عرفته أثينا هى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه.
أما الشعب الذى يحكم فلقد جرت إعادة تعريفه على مراحل. بالقضاء على العبودية، بعد أن ساوت الأديان بين البشر أجمعين وتأكدت هذه المساواة فى حقوق الإنسان الوضعية، لم يصبح فى الشعب ثمة سادة وعبيد وتوسعت قاعدته. ورويدا رويدا تساوى من يملك ومن لا يملك وأصبحوا جميعا سواسية كمكونين للشعب.
ثم توسع الشعب الذى يحق له أن يحكم نفسه ليضم النساء. ولأن الشعب بهذا المعنى زادت مكوناته ثم لأنه لم يصبح سكان مدينة صغيرة واحدة بل سكان دولة وطنية تتعدد فيها المدن والقرى وقد تترامى أطرافها، فقد صارت الديمقراطية هى حكم الشعب لنفسه بشكل غير مباشر، عن طريق ممثليه المنتخبين فيما أصبحت تسمّى أيضا الديمقراطية التمثيلية.
تعريفات الديمقراطية كثيرة. بعد التطور المذكور أعلاه، فى بدايات القرن الحادى والعشرين أصبح نظام سياسى يوصف بأنه ديمقراطى إذا ما كان اختيار متخذى القرار الحقيقيين فيه يحدث فى انتخابات عادلة ونزيهة ودورية يتنافس فيها المرشحون على الأصوات بحرية. هذا التعريف هو حدّ أدنى للديمقراطية ولكنه ليصحّ، يشترط ضمنيا أن يتمتع أفراد الشعب ــ المواطنون ــ بحقوقهم المدنية فى التعبير والاجتماع والتجمع وهى الحقوق الضرورية لإجراء عملية انتخابية صادقة.
***
جهود التنظير للديمقراطية وللتطور الديمقراطى بغية تحقيقها لا تنتهى. من مراقبة ما حدث فى العالم فى القرنين الماضيين، ذهب منظِّر شهير إلى أن العالم شهد ثلاث موجات من التطور الديمقراطى. الموجة الأولى امتدت لقرن من الزمان من نهاية العشرينيات فى القرن التاسع عشر إلى نهاية العشرينيات فى القرن العشرين وهى تأثرت بالثورتين الفرنسية والأمريكية. الموجة الثانية دامت لما يقرب من عشرين عاما بين ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الستينيات من القرن العشرين. هاتان الموجتان شهدتا نكسات أخذت صور الفاشية والنازية والانقلابات.
الموجة الثالثة هى التى تهمنا بشكل خاص، وهى التى يؤرخ لبدايتها عند منتصف السبعينيات من القرن العشرين عندما انتقلت إلى الحكم الديمقراطى بلدان جنوب أوروبا المتوسطية التى حكمتها نظم تسلطية لعقود، ثم تبعتها فى التطور الديمقراطى بلدان من القارات الثلاث فى العالم النامى، أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.
فى هذه القارات بلدان اقتصاداتها أقل تقدما وتنوعا من الاقتصاد المصرى، ومتوسط الدخل الفردى السنوى أدنى منه فى مصر، ومستويات الأمية فيها أعلى منها فى بلادنا.
إذا نحينا جانبا أمريكا اللاتينية وآسيا، على الرغم مما فيهما من دروس عظيمة الدلالة مثل رفض شعب بوليفيا اقتراحا قدمه رئيس الجمهورية فى استفتاء أجرى فى الأسبوع الماضى، وأخذنا بمثال قارتنا الإفريقية، سنجد أنه فى حساب من الحسابات، فى خلال خمس سنوات فيما بين نهاية الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، مرّت 41 من بين 47 بلدا جنوبى الصحراء الكبرى بإصلاحات سياسية واسعة النطاق. وفيما بين نهاية الثمانينيات والعام 2000، انعقدت انتخابات تشريعية اشترك فيها حزبان على الأقل فى 42 بلدا ولم يستعص على الانتخابات التعددية إلا عدد قليل من الدول.
تنزانيا تجتمع فيها سمات الحكومة المسئولة أمام شعبها. القواعد الديمقراطية والإجراءات البرلمانية محترمة والقواعد الرسمية المكتوبة تطبّق بالفعل وهى مفعلة على المستويين الوطنى والمحلى. فى تنزانيا الانتخابات تتواتر ومنذ الثمانينيات من القرن الماضى كل رئيس للجمهورية يحكم لفترتين اثنتين لا غير، اجمالى مدتهما عشر سنوات.
متوسط الدخل الفردى السنوى، فى تقديرات صندوق النقد الدولى عن سنة 2014 كان فى تنزانيا 2,700 دولار أمريكى بينما كان فى مصر 10,900 دولار.
نيجيريا وزامبيا والسنغال وكينيا وغانا وحتى رواندا التى عاشت تجربة إبادة جماعية فى سنة 1994 تجرى فيها انتخابات دورية منتظمة، وهى فيها كلها مؤسسات ديمقراطية. متوسط الدخل الفردى فى هذه البلدان الستة فى سنة 1994 كان على التوالى 6,100 و4,100 و4,100 و3,100 و2,400 و1,700 دولارا، أقل كثيرا من متوسط الدخل الفردى فى مصر.
فى تقديرات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، كان معدّل الأمية فى سنة 2013 فى مصر أدنى منه فى كل هذه البلدان، فهو كان 26 فى المائة بينما كان 28 فى المائة فى كينيا و28 فى المائة فى غانا و49 فى المائة فى نيجريا و34 فى المائة فى رواندا و50 فى المائة فى السنغال و32 فى المائة فى تنزانيا.
ليست الحياة الديمقراطية على خير ما يرام فى بلدان قارتنا ولكن الممارسات الديمقراطية ترسخت فيها بما فيه الكفاية لينشئ الاتحاد الإفريقى ــ فى سنة 2002 بمقتضى وثيقته التأسيسية ــ مجلسا للسلم والأمن يسهر على صيانة الديمقراطية فى القارة ويقف فى وجه الانقلاب عليها كما حدث فى مالى وبوركينا فاسو.
***
أى المبررات إذن يمكن أن تساق لكى ينكر على المصريين حقهم فى أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، حقهم فى الديمقراطية، لعشرات السنين القادمة؟ إن لم تكن المبررات من النوع الاقتصادى أو الاجتماعى، فمن أى كنه هى؟ هل هى محاربة الإرهاب؟ الديمقراطية لا تنتظر حتى يدحر الإرهاب بل هى السبيل إلى مواجهته بفاعلية وكفاءة، وليس المواطنون الممارسون لسيادتهم عاجزين عن أن يزودوا أنفسهم بالأدوات اللازمة لهذه المواجهة. هل هى التاريخ والثقافة؟ المصريون كانوا من أوائل شعوب العالم النامى فى رسم طريق الحكم الدستورى والديمقراطية بل والخوض فيهما كما كانوا فى تطوير أسس ثقافة سياسية ديمقراطية.
وإذا سلمنا جدلا بأن إقامة الديمقراطية مشروع طويل الأجل، فما هو البرنامج الموضوع لبلوغها؟ ما هى المراحل وما هى الخطوات التى يخطط لأن تمر بها مصر حتى يستحق المصريون أن يديروا شئونهم بأنفسهم؟ لا تتبدّى خطوات ولا مراحل وليس ثمة أى برنامج للوصول إلى الديمقراطية.
المتابع لتطورات السنوات الأخيرة وللتصريحات المدلى بها أخيرا يخرج باستنتاج مفاده أنه توجد فى مصر ثلاثة مواقف عريضة من الديمقراطية، يحتمل كل منها تنوعات فى داخله. الأول هو موقف الإسلاميين. السلفيون يستنكرون مفهوم الديمقراطية أصلا وهم ينددون بفكرة أن يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم.
الإخوان المسلمون فى محنة الآن ومع ذلك لا ينسى المراقبون ممارستهم أثناء السنة التى حكموا فيها، ممارسة تجلت فى الإعلان الدستورى الصادر فى نوفمبر 2012 والذى أرادوا به أن يشملوا الدولة كلها بسيطرتهم وأن يديموا حكمهم «لخمسمائة عام» كما كانوا يقولون. هذا موقف نقيض للديمقراطية.
الموقف الثانى هو ذلك الذى يؤجل الاستحقاق الديمقراطى لعقود قادمة، وهو موقف الحكم الحالى ومن يرون كل الحكمة فيما يصدر عنه من تحليلات ويحدده من قيم وأهداف.
الموقف الثالث هو ذلك الذى تتخذه القوى المدنية الداعية إلى الديمقراطية خلال أجل قصير وبناء على برنامج متفق عليه يفصِل فى مراحل الانفتاح على الحقوق والحريات والتمتع بها، ثم الانتقال الديمقراطى حيث تنعقد أول انتخابات تنافسية حقة، وأخيرا مرحلة ترسيخ الممارسات الديمقراطية وتجذرها.
الهيكلة الثلاثية للجسد السياسى المصرى بتنوعاتها شىء جيد لأنها تسمح بتحديد أطراف العملية السياسية وتسمح لهذه العملية بأن تكون ذات معنى، مادامت الأطراف التى لجأت إلى العنف والإرهاب أعلنت أنها عادت عنه وانضمت إلى صفوف من يقاومونهما.
الحكمة السائدة هى أن الموقف الثالث المتمسك بالديمقراطية خلال أجل قصير يعدم التأثير والتأييد بين الرأى العام. هذه الحكمة تحتاج إلى المراجعة.
إن هناك تعطشا لدى المواطنين لأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم لكى ينجوا بها من البطش والتجاوزات، وحتى يحاربوا الفساد الذى يعانون من تبعاته، وليشتركوا فى صياغة السياسات التى تثمر لهم حقوقهم.
كيف يمكن الإشادة بالمصريين ليل نهار ثم اعتبار أنهم ليسوا أهلا ليكونوا مسئولين عن أنفسهم؟ هذا تناقض لا بدّ من تفكيكه.
تفادى العثرات وتقدم مصر لن يتحققا إلا بالحرية والديمقراطية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة