ما الذي يحتويه الكتاب ويميزه عن مئات الكتب التي تصدر عن فلسطين والفلسطينيين وقضيتهم، او حتى عن آلاف الكتب التي تصدر عن العرب
يقفز كتاب «Being Palestinain: Personal Reflections on Palestinian Identity in the Diaspora» (أن تكون فلسطينياً: تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية في الشتات) للأكاديمي الفلسطيني المتعدد الإنجازات والاهتمامات ياسر سليمان إلى المرتبة السادسة عشرة للكتب الأكثر مبيعاً على موقع الكتب الشهير Amazon، خلال اسابيع عدة فقط من نشره. ما الذي يحتويه الكتاب ويميزه عن مئات الكتب التي تصدر عن فلسطين والفلسطينيين وقضيتهم، او حتى عن آلاف الكتب التي تصدر عن العرب وشعوبهم وقضاياهم، ويجذب إليه قراءً كثراً ومن خلفيات متعددة؟ الكتاب الذي قد يبدو «عادياً» وليس فيه «اطروحة» خارقة يحقق بـ «عاديته» تلك حضوراً مُدهشاً، ويقدم لنا اجابتين على سبب ذلك الإدهاش، ربما ضمن اجابات اخرى.
واحدة مباشرة وفورية وأخرى مركبة تغوص في عمق الأشياء، والإثنتان تتكاملان. الإجابة المباشرة تقول ان سليمان، استاذ الدراسات العربية في جامعة كامبردج، ورئيس مجلس امناء الجائزة العالمية للرواية العالمية (البوكر)، والمشرف او المنخرط في جوائز كتب اخرى، التقط ببساطة وانتباه ذائقة القراء سواء الاكاديمية او تلك التي تبحث عن نصوص ذات لون مختلف.
ثم حول تلك الالتقاطة إلى مشروع كبير تعود بذوره الى سنة 2004، ظل يختمر بهدف اختبار التعايش اليومي للفلسطيني مع هويته في حواضر شتاته. تضافر مع تلك الالتقاطة، ربما، ملل جفاف الكتابة الاكاديمية في كتب المؤلف العديدة التي احتلت بدورها المقدمة في حقول سياسات اللغة والهوية والقومية ورقّت كاتبها الى موقع عالمي متقدم ومُقدر في الدوائر الاكاديمية. والمهم في ذلك كله ان سليمان استجمع كل تلك الخبرات من شرق القدس، مدينته الاولى التي «أيقنها»، الى غرب ادنبره، مدينته الثانية التي محضها الحب والامتنان، ثم إلى كامبردج التي جاءها مُبدعاً جاهزاً، وما بينهما من مدن وحواضر، كي تمده بفكرة هذا الكتاب وإصراره على الغوص فيه نحو «العادي» العميق! استجمع ذلك كله ليلتقط ببراعة عبقرية «العادي» في الفلسطيني ويضعها تحت ضوء عيون القراء والقارءات: بعيداً من السياسة، بعيداً من البطولة، بعيداً من البكائية، بعيداً من الإدعاءات الكبرى.
بكل بساطة إذن، وبكل عمق في الآن ذاته، تحتضن صفحات الكتاب اكثر من مئة «بروفايل» لفلسطينيين من الشتات، وتترك لهم افلات انطباعاتهم عن انفسهم وهويتهم و«فلسطينيتهم» وغرباتهم، وعن تسرب سنوات حياتهم من رزناماتهم.
اشترط المؤلف عليهم، كما يخبرنا في المقدمة الثرية، ان لا يكتبوا في السياسة، ان يتركوا الصراع الكبير مع المشروع الصهيوني خارج الفضاء الصغير الذي استهدف استدراج تداعياتهم ووعيهم بذاتهم، كما المناجاة، وللتأمل في التجربة الحياتية والعائلية والترحالية لكل منهم. يتحدثون عن ألوانهم، وأولادهم، عن المدن التي آلوا إليها، عن هواياتهم وأشواقهم، عن حبهم وكرههم، ...، عن، مثلاً، كرة القدم في ولاية اميركية، او عن تأمل الطيور في آيسلندا، عن جامعاتهم وحوانيتهم، عن شقائهم بهويتهم التي حولتهم الى «جمل محامل» تنوء بالعبء اكتافهم، إذ يهاتفون انصاف عائلاتهم في مخيم هنا، او قرية هناك، او على شاهد قبر يحمل دمعة تكاد تسقط ولا تسقط.
ومن هنا، اي الفكرة التي تتعقل الهوية كعبء، نتلمس الإجابة الثانية عن نجاح هذا الكتاب. الهوية، او «جمل المحامل»، ينيخ بالعبء عند كل معبر حدود، كما يحلل سليمان في المقدمة.
فهناك تُختبر الهوية بكل سماتها وجوانبها، ويتم استخراجها من باطن الإخفات، او الإهمال، او حتى النسيان.
فلو كنت فلسطينياً (او عربياً ايضاً) وتحمل جواز سفر غربياً فإن هذا لا يشفع لك عند موظفي المطار، ولا يحميك من الأسئلة «الخاصة» التي يثيرها اسمك او مكان ميلادك المنقوش في الجواز.
ولئن اردت الانخلاع الكلي من هويتك الأم والاندغام المطلق في هويتك المُتبناة، فإن لون بشرتك واسمك وألف سمة اخرى وسمة، لا تسمح لك بذلك، وتعيدك الى المربع الاول. مجتمعات الاندماج في كثير من الحالات لا تسمح لك بالاندماج وتطلب هويتك الأصلية.
بعيداً من هذه النقطة القصية في التعامل مع الهوية كعبء، تقف الهوية في مختبر الحدود لتعبر عن ذاتها احياناً باعتزاز واعتداد، إذ يخرجها صاحبها من معطفه كالساحر ويعلنها في وجه موظف الحدود قبل ان يتحقق من الجواز الذي يخفي موقتاً اصول حامله.
الحدود هي المختبر الدائم والقلق والمُقلق للهويات والانتماءات، حيث يتم الاستدعاء الدائم لها ونبشها.
ثمة مختبرات اخرى هائلة العدد، لا يمكن حصرها لأنها تنتشر مع حالات الحياة اليومية، لكننا نتصفح بعضها من خلال التأملات الواردة في الكتاب، وكل منها ينقل لنا مُقاربة مُختلفة، وتخيلاً لفلسطين مختلف.
فلسطين تبدو مئات البلدان، فكل تجربة فردية تولّد فلسطينها الخاصة بها، فتصبح فلسطين ابعد بكثير من ارض او وطن، تصبح حالة إبداع انسانية عميقة، تتجاوز القومي والهوياتي، وتغرق في اسئلة مركبة حول الفرد، والانتماء، والذاكرة، والأولاد الذين ينشأوون في بلاد وجغرافيات مختلفة وعلاقتهم بآبائهم وأمهاتهم المشطورين بين حاضر شبه غائب، وماض شبه حاضر.
هذا الكتاب من النوع الذي تصعب مراجعته خشية التورط في انتقائية مجحفة، إذ كيف بالإمكان التنقل بين حيوات وتجارب اكثر من مئة إنسان، كل منها تستأهل التوقف عندها ملياً والتأمل في تأملاتها.
لكن قد يكون من المفيد على الأقل تصفح وإيراد عينة من عناوين بعض تلك التأملات إذ قد توفر هنا شطراً من مذاقه ومزاجه العام: «مقيم في المكانين، وليس مواطناً في ايهما»، «مُحتار كيف ينظر إليك الآخرون»، «بحار اخرى من دون يافا»، «إزعاج سكينة الآخرين»، «عالمة طيور من آيسلند»، «في الغبار»، «مواطنة عالمية»، «غزاوي الى الأبد»، «اشياء نحملها معنا»، «صوت عائد، صورة مُعتادة»، «ان تكون لا احد»، «التمسك باللايقين»، «المشي في سنواتها»، «شيطان الأمل»، «بنت البلاد على الطريق»، «الحضور في الغياب»، «الحياة بين الحروف»، «المجدرة، او الهيغز العربي»، «التلاؤم في لا مكان»، «غريبة عن قصتي ذاتها»، «من عجوز الى اميركا»، «لف ورق العنب على خارطة العالم»، «بقدونس، ميرمية وزعتر»، «راية صامدة»، «مكتوب على جبهته»، «كعب امي العالي»، «حقيبة ثقيلة»، «عبء البركات»، «عندما لا تكون الأشياء كما تبدو»، «احضن فلسطين في قلبي».
تصفح بعض الصور التي تضمنها الكتاب ينقلنا ايضاً الى عوالم رائقة، ويمركز الصورة كي تظل في قلب الحدث الذاكراتي الفلسطيني.
في تقريضه للكتاب يقول نعوم تشومسكي كيف ان القصص التي قرأها فيه اعادته الى زياراته الى مخيمات لبنان وإلى مدن الجليل الفلسطيني وتشبث الناس بصورهم وذاكرتهم، وهو ما يجوهر مسألة الصورة ويرقيها الى مجال غير مسبوق في التاريخ الإنساني، حيث تصير مركز الذاكرة التي لا تموت.
مثلاً نرى: صورة جد سعود الدجاني في بيت تظهر عليه آثار الغنى في يافا سنة ١٩٢٠، او صورة والد المترجم والكاتب الفلسطيني فادي جودة امام مدرسة مهدمة في اسدود التي كان معلماً فيها، او صورة الأب جورج معلوف في اتلانتا الى جانب الأب عطالله حنا، او صوراً عن جوازات السفر والهويات خلال ايام حكومة فلسطين وقبل قيام اسرائيل، او صورة والد المؤلف ياسر سليمان نفسه في العشرنيات وهو بكامل اناقته وربطة عنقه، بعد ان اشتغل مع احد يهود طبريا الفلسطينيين، ثم تزوج كردية من دمشق، واستقر في القدس، وهناك صورة جميلة وبالغة التأثير لشاهد قبر في اوكسفورد أوى والدة الكاتب عباس شبلاق وعليه سطران أوصت أمه أن يُكتبا على الشاهد، واحد يضع المسافة التي تفصلها عن مدينتها فيقول: «أكسفورد - حيفا، 3200 كيلومتر» والثاني بيت شعر لمحمود درويش يقول: «أنا من هناك وعندي ذاكرة».
هذا كتاب يؤرخ الذاكرة ويخلطها بالحاضر فتختلط الأزمنة، ويستحق ياسر سليمان رفع القبعات له، فلسطينييها وأسكتلندييها!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة