اللافت هنا أن كيري وهو يدافع عن الاتفاق أشار إلى إمكانية صحة ذلك، لكنه ببساطة يجده أفضل وسيلة للوصول إلى الهدف المنشود
عندما سألت باربارا بوكسر عضو مجلس الشيوخ الأمريكي وزير الخارجية جون كيري عن اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا حذرت من أن يكون (روب ا دوب) وهو تعبير عن الأسلوب الذي اخترعه محمد علي في ملاكمته الشهيرة مع جورج فورمان في زائير عام ١٩٧٤، حيث بدا كما لو كان سلبيا ساكنا أغلب المباراة بالاستناد إلى الحبل (روب) لكي يخدع المغفل (دوب) وهو فورمان بإنهاكه قبل أن يقضي عليه.
اللافت هنا أن كيري وهو يدافع عن الاتفاق أشار إلى إمكانية صحة ذلك، لكنه ببساطة يجده أفضل وسيلة للوصول إلى الهدف المنشود بإنهاء عمليات القتل وتوصيل المعونات الغذائية والأدوية إلى المدنيين المحاصرين، مع بدء عملية سياسية لتسوية الأزمة، مشيرا إلى وجود خطة (ب) في حالة فشل هذه السياسة، وهو ما رد عليه بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس نافيا أن تكون هناك خطة بديلة. وتشير بعض التقارير إلى أن وزير الدفاع أشتون كارتر ومعه رئيس الأركان ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) يريدون موقفا أمريكيا أقوى في مواجهة روسيا التي يصفونها بأنها تمثل تهديدا وجوديا للولايات المتحدة على المستوى البعيد بما تتبناه من سياسات تسعى لاستعادة دور موسكو كقوة عظمى. لكن الواضح أن مواقف هؤلاء لم تترجم بعد إلى خطوات أو توصيات محددة يوافق عليها الرئيس أوباما وبالتالي ستظل في إطار الجدل الداخلي للإدارة الذي اشتعل منذ بداية الأزمة السورية ولايزال مستمرا حتى الآن، بينما يبدو مستبعدا تماما أن يخالف أوباما ما استقرت عليه سياساته منذ وصوله إلى البيت الأبيض ويبدأ في تصعيد عسكري في سوريا أو غيرها في العام الأخير لولايته. إذن واشنطن ليست لديها بدائل واضحة في حالة فشل اتفاق "وقف العمليات العدائية" وهي الآن تعمل على تنفيذه باعتباره الطريق الوحيد المتاح الذي يهدد فشله بانهيار كامل ونهائي للدولة السورية كما حذر كيري. من هنا تتأكد أهمية السؤال عن إمكانية نجاح أو فشل الاتفاق.
وقد حرصت واشنطن ومعها موسكو على دعم الاتفاق بقرار من مجلس الأمن الدولي (٢٢٦٨) الذي صدر الجمعة بالإجماع لإعطائه غطاءً شرعيا وتأكيداً على مساندته من المجتمع الدولي. لكن وكما وضح في كلمات الوفود أثناء الجلسة، فإنه لا تزال هناك تحفظات بشأن بنود القرار من قبل دول مهمة، بل وبرزت شكوك في إمكانية تنفيذه بجدية من قبل الأطراف المتصارعة خاصة قوات الجيش السوري التي كانت تحقق تقدما بدعم روسي إيراني خلال الأسابيع الماضية وربما تجد في القرار تجميدا لتلك المكاسب. والقرار يستثني الجماعات الإرهابية مثل داعش وجبهة النصرة من وقف إطلاق النار، لكن لا توجد خطوط واضحة لوجود تلك الجماعات خاصة جبهة النصرة التي تتعاون مع بعض الجماعات الأخرى وقد يستغل النظام السوري وجودها لتبرير استمرار عملياته ضد بقية قوات المعارضة بحجة محاربة الإرهاب. وحتى تنظيم داعش، فإن استمرار محاولة حصار حلب من قبل قوات النظام وبدعم جوي روسي مكثف أدى إلى تعاون بين قوات داعش والقوات المحاصرة داخل المدينة لمنع الحصار. والمؤكد أن داعش وجبهة النصرة سيبذلان كل جهد ممكن لإفشال ذلك الاتفاق وأعلنا بالفعل رفضهما له.
من جانب آخر تبدو تركيا مُصرّة على تحجيم دور القوات الكردية شمال سوريا ومنعها من مدّ سيطرتها في منطقة الحدود التركية ـ السورية حتى لو أدى ذلك لإغضاب الولايات المتحدة وآخرين، فالأمر بالنسبة لأنقرة مسألة أمن قومي لا تحتمل الجدل خاصة مع ضعف موقفها في سوريا مؤخرا بتراجع القوات التي تدعمها ومحاصرتها في حلب وانقطاع أغلب خطوط الأمداد عنهم.
ولكن حتى لو استمر وقف إطلاق النار، وهو أمر جيد في ذاته لحماية الأرواح والسماح بوصول الإمدادات الغذائية والطبية، فإن ما يخشاه الكثيرون أنه قد يكرس الخطوط الحالية للقوات المتصارعة والتي قد تمثل في حالة بقائها على ما هي عليه إلى التقسيم الفعلي لسوريا على أسس دينية وذهبية وعرقية. فالقوات السورية النظامية تسيطر على المنطقة الغربية وساحل البحر المتوسط وتشمل المدن الكبرى مثل دمشق وحمص ومعها حلب المحاصرة خاصة لو تمكنت من السيطرة الكاملة عليها. والمنطقة الشرقية تضم الجماعات السنية بينما يتركز الأكراد في الشمال. لكن وقف إطلاق النار ليس هدفا نهائيا، بل هو تمهيد ضروري لاستئناف المحادثات في السابع من مارس القادم بين الحكومة والمعارضة بالإضافة للأطراف الدولية الأخرى. ومن هنا فإن التركيز على هذه المحادثات وضرورة الخروج بحلول إيجابية ومقبولة للعملية السياسة ستظل هي العامل الأساس ليس فقط لاستمرار وقف العمليات العدائية ولكن أيضا في إنهاء عملية التقسيم الفعلي لسوريا.
بالتأكيد كل هذا يظل في إطار الطموحات التي تختلط بالأحلام أو حتى الأوهام. فالتجارب السابقة لا توحي بإمكانية تحقيق أي من تلك الطموحات أو التوصل لتسوية سياسية حقيقية في المستقبل القريب، ومع هذا يظل هذا هو الطريق الوحيد المتاح الآن. فإذا ما استمر وقف إطلاق النار على الأقل فإنه سيصبح إنجازا في ذاته يمكن البناء عليه فيما بعد.
المشكلة أن الحافز ليس كبيرا للمحافظة عليه، والثمن ليس باهظا في حالة انتهاكه. لكننا لا نملك غير الأمل ولو كان كاذبا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة