تبدو مهمة إفراغ العراق من نخبه مهمة كونية يقوم بها الأعداء والأصدقاء وأهل البلد أحياناً، القريب منهم والبعيد، الواعي وغير الواعي
تبدو مهمة إفراغ العراق من نخبه مهمة كونية يقوم بها الأعداء والأصدقاء وأهل البلد أحياناً، القريب منهم والبعيد، الواعي وغير الواعي، المتطرف والمعتدل، الطائفي وغير الطائفي، العميل وغير العميل، بحيث تبدو هذه المهمة كما لو أنها نداء رباني. في بداية الاحتلال الأميركي، فتح الأميركيون حدود العراق لكل ما هبّ ودب لتخريب كل شيء. لا نستثني أهل البلد الذين سرقوا كل ما وقعت أعينهم عليه.
ليست هذه هي المشكلة، فالمـــال يمكـــن تعويضــــه وما تهدّم يمكن بناؤه، لكن المشكلة الكبرى تتعلق باغتيال النخب من علماء ومفكرين وأساتذة جامعات وأطباء، الذين يمثلون البنى التحتيــــة لقوة المجــتمع وثقافته الراسخة وسر ديمومته وحيويته. ففي بداية الاحتلال وفي ظل الفوضى الكبيرة، بدأت تصفية العلماء العراقيين ممن يختصون بالفيزياء الذرية وما يتعلق بهذا الاختصاص أو كل ما يتعلق بصناعة القنبلة الذرية، وقيل في حينه أن إسرائيل تقف وراء هذه الاغتيالات التي استمرت حتى وقوع الحرب الأهلية، التي يقول نقاد أميركا أن الأميركيين خططوا لها وجاءت نتائجها تطابق مخططهم.
بعد ذلك، بدأت الخطة الجديدة بتصفية الطيارين العراقيين الذين ساهموا في الحرب العراقية – الإيرانية، التي استمرت ثماني سنوات، ولا نظن أن أحداً يجهل الجهة التي نفذت هذه الاغتيالات. وعلى إثر ذلك، لم يبق في العراق طيار حربي واحد يمكن الاعتماد عليه في الحرب القائمة ضد العراق، بعدما حلّ بريمر الجيش العراقي في بداية الاحتلال.
وبعد توقف الحرب الأهلية (هل توقفت فعلا؟)، بدأت حملة جديدة لاغتيال المفكرين العراقيين وأساتذة الجامعات ممن يحملون ألقاباً علمية وفكرية وفلسفية، ما دفع كثراً من الأساتذة الآخرين الى ترك البلد الى المنافي أو دول الجوار للحفاظ على حياتهم وحياة أبنائهم. ولم يسلم الصحافيون والكتاب، بل كانوا أكثر النخب التي تعرضت للتصفية، ما دفعهم أيضاً الى ترك البلد والبحث عن مكان آمن.
قبل أكثر من سنة، بدأت حملة أخرى جديدة ما زالت مستمرة لتصفية الأطباء العراقيين، بحيث لا يمر يوم إلا وتوافينا الأخبار باغتيال أحد الأطباء في إحدى المدن أو في بغداد، ما يدفع أيضاً الباقين الى الهجرة. ولا نعرف من سيكون المستهدف القادم فيما البلد يكاد يفرغ من العلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات والأطباء!
لا نريد أن نذكر الناس بما جرى للحضارة العراقية أثناء نهب المتحف العراقي، ولا بما حدث للآثار العراقية في الموصل على أيدي "داعش"، لكننا نريد أن نلفت النظر إلى أصحاب المسؤولية الأولى في ذلك كله، وهم الطغمة السياسية التي تحكم العراق منذ أكثر من عشر سنوات، والتي تقف وراء كل هذا الخراب الذي يدفع البلد الى الهاوية قريباً.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة