إن ما يحدث فى أغلب هذه الصراعات، يبدو وكأنه أحد أفلام المافيا أو سلوكيات الجريمة المنظمة التى هى إفراز طبيعى لمجتمعات مادية
يتحدث البعض عن الخصومات بين رجال الأعمال، والصراعات المكتومة بينهم، وعلى أى حال فالهدف من هذا المقال ليس التعرض لتفاصيل فاحت رائحتها واشتهر أصحابها، فليس من شيمة هذا القلم إلصاق التهمة ببرئ أو التبرع بتبرئة مجرم، وإنما الهدف باختصار ووضوح هو توجيه اتهام إلى ظاهرة، وتبرئة ضمير وسمعة ملايين الشرفاء الذين يكدحون ليل نهار من أجل توفير لقمة عيش حلال لأبنائهم...
إن ما يحدث فى أغلب هذه الصراعات، يبدو وكأنه أحد أفلام المافيا أو سلوكيات الجريمة المنظمة التى هى إفراز طبيعى لمجتمعات مادية تعتنق فلسفة نفعية أنانية تنزع من الإنسان أروع ما فيه، وتبذر فيه أحط المشاعر والأفكار... ما حدث ويحدث غريب عن تقاليدنا، ثقافتنا، وديننا.. أنه يكشف عن خلايا سرطانية تتمدد ولا بد من إستئصالها قبل أن تستفحل فى جسد الأمة، ولن يكون ذلك إلا بتسليط الضوء عليها وعزلها، واستنهاض جهاز المناعة كى يهب وينقض على ذلك المرض الخبيث .
إن جريمة نهب المال العام ، هى حلقة من سلسلة جرائم يمكن إجمالها فى ظاهرة واحدة يمكن أن نطلق عليها اسم: «زواج المتعة ما بين السلطة والمال والفساد»، ويضاف إليها أحياناً فتنة المرأة التى يمكن أن نطلق عليها «لعنة الجمال»، ورغم أن كل أطراف هذا الزواج يحتلون قمة المجتمعات بشكل عام، إلا أن ما يجمع بينها هو الظرف المؤقت والطبيعة المشتبهة للعلاقة، فالسلطة اى سلطة لها ظرفها التاريخى المؤقت، وهذا الظرف له عوامله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهى عوامل متغيرة، والسلطة بهذاالمفهوم وبغض النظر عن تعريفها القانونى تعد عارضا زمنيا وإجتماعيا ودوامها من المحال، وعندما تقترن بالفساد فإنها تفقد شرعيتها فى المقام الأول، لأن تلك الشرعية تتمثل فى عقد اجتماعى تلتزم فيه السلطة بحماية المجتمع، وليس بتيسير نهبه وسرقته، وهناك نوعان من السلطة : سلطة الدولة، وسلطة الأفراد ، وكلاهما يستمد قوته وأساس وجوده من الآخر ، إلا أن سلطة الدولة سيادية ولديها أدوات البطش والقمع لفرض سيادة القانون، وسلطة الأفراد تتمثل فى جهازها التشريعى (البرلمان) الذى يتولى المراقبة والمحاسبة والتشريع..
إلا أن هناك سلطة أخرى هى سلطة «رأس المال»، وهى فى حالة الاقتصاد الحر تمثل قوة جبارة تشبه الطاقة النووية التى يمكنها أن تبنى وتعمر، ولكن لديها أيضاً القدرة على أن تخرب وتدمر، وهذه السلطة لا يحكمها سوى دافع الربحية، وهو دافع مشروع إذا كان فى إطار من القانون، ولكنها إذا لم ترتدع به فأنها تتوحش وتتوغل كالنار فى هشيم المجتمع، ولإدراكها بإمكانيات البطش والقمع التى تمتلكها سلطة الدولة، فأنها فى الغالب تحاول التسلل إلى هذه السلطة الأخيرة، سواء بامتلاكها أو باستلابها أو بإفسادها، سلطة المال تحاول أن تغتصب سلطة القرار فتجدها تزحف إلى المواقع التنفيذية والتشريعية، وهى مواقع ذات نفع عام تختلف عن مواقع رأس المال الذى هو بطبيعته ذو نفع خاص، وهكذا تحاول سلطة المال بالتملك أن توظف المواقع العامة لتحقيق مصالحها الخاصة، وهى تستخدم فى ذلك كل الوسائل المتاحة بما فى ذلك القانون نفسه..
وقد لا تمتلك سلطة المال المواقع التنفيذية أو التشريعية، لكنها تسعى عن طريق الاستلاب لإخضاع هذه المواقع لأهوائها وأغراضها ، فتبدو سلطة الدولة أداة طيعة فى يد سلطة المال تحركها كما تشاء بادعاءات مثل الحفاظ على مناخ الاستثمار أو عدم التأثير على البورصة، وقد لا تكون الدولة راضية تماماً عن هذا الاستلاب، ولكنها لأسباب كثيرة لا تملك القدرة أو الرغبة فى المقاومة، وأخيرا يلعب الفساد والإفساد الدور الرئيسى فى هذه العلاقة، فيكون بمثابة الصمغ الذى يلصق أطرافها...
ومن الثابت أن العديد من هذه الأحداث لعب فيها جمال المرأة دوراً كبيراً، وبات معروفاً ما يسمى «بالرشوة الجنسية»، وتزايد دور الجميلات فى عقد الصفقات وتمرير القروض، وسمعنا عن المرأة الحديدية، وحسناء المعادى وغيرهما، وحيث إن المال السهل يدفع صاحبه لشعور مخادع بالقوة والمقدرة، فإن النساء يصبحن بضاعة، شأن أى بضاعة، يمكن بيعها وشراؤها أو التحلى بهن مثل القلادات والأوسمة، ومن المؤسف أن صديد المال لم يفسد أصحابه فقط أو اقتصر على إفساد بعض المجتمع، وإنما امتد إلى الفن أيضاً كى يلوثه ويوظفه لأغراضه الدنيئة ...
إنه زواج للمتعة بكل معانيها ، وهو عقد فاسد بالإجماع...
لست متشائماً من إمكانيات المجتمع فى التخلص من قمامته، بل إننى أثق كل الثقة فى أن ما حدث ويحدث ليس إلا علاقة ظرفية مؤقتة سوف يلفظها الجسد الجمعى لهذه الأمة، وأبادر بالقول بأن الثراء ليس اتهاما أو عيبا فى ذاته، ولكن السفه والتسلط به جريمة لا ينبغى أن تغتفر، كذلك لا يمكن أن ينسحب هذا المقال على كل أصحاب المال أو السلطة، فمنهم الشرفاء والقابضون على ضمير وسمعة الوطن كالقابضين على الجمر، ولكننى أعترف أن الصمت قد صار جريمة لا ينبغى أن نشارك فيها، وأن مشرط الجراح لايزال مترددا إزاء تلك الخلايا السرطانية التى توحشت، ويجب على رجال المال أن يعلموا أنه لا يزال الشرف حياً فى هذا الوطن...
أرفض أن نسلم أو نستسلم لما تحمله هذه الظاهرة من منطق أعوج، فهذه هى مصر .. مصر التى يجب أن ترفع هامتها وتمزق فوراً هذا العقد الاجتماعى المزيف الملوث لزواج المتعة، ذلك العقد العرفى الذى نوهم أنفسنا بأنه يقنن علاقة آثمــة...
وأيها المتنطعون بجرائمكم، قليل من الخجل، فأنتم لطعة سوداء على نسيج تاريخنا الأبيض ...
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة