ليوناردو دي كابريو والأوسكار الحلم
الترشيح الخامس لدي كابريو، بفضل دوره الرائع في "ذا يفيننت"، يُشكّل لحظة تأمّل في المسار المهنيّ له كممثل.
قبل ساعات قليلة على بدء الحفلة الـ88 لـ"أكاديمية فنون السينما وعلومها" مساء اليوم الأحد (28 فبراير 2016) بتوقيت لوس أنجلوس، التي تُوزَّع فيها جوائز "أوسكار" في الفئات المختلفة لصناعة الفيلم الأمريكي، لا يزال كثيرون يُردّدون مع الممثلة الأمريكية كايت وينسلت، بأن العام 2016 سيكون "عام الأوسكار لليوناردو دي كابريو".
ذلك أن الترشيح الخامس للممثل ـ الحاصل عليه بفضل دوره الرائع في "ذا ريفيننت" (إخراج أليخاندرو إيناريتو)، يُشكّل لحظة تأمّل في المسار المهنيّ له كممثلٍ، وفي الارتباط المعلَّق أو المؤجَّل بينه وبين التمثال الذهبي "أوسكار".
والترشيح الجديد للممثل والمنتج والناشط البيئيّ الشاب ـ المولود في لوس أنجلوس، أرض الأحلام السينمائية وصناعة الفن السابع، في 11 نوفمبر 1974، إذْ يناله دي كابريو بفضل أحد أجمل أدواره وأكثرها تطلّباً درامياً لجهدٍ معنوي وجسدي وفكريّ، يُصبح بالتالي محطّة إضافية في مسيرة فنية تكاد تُشبه غيرها من المسارات الفنية الخاصّة بممثلين من جيله أو من أجيال أخرى، لولا قدرته الأدائية والثقافية والسينمائية المتنوّعة على تطوير لغة اشتغاله التمثيلي، باتّجاهات تصبّ -في النهاية- في مصلحة الشخصية الذاتية له، كما الشخصيات التمثيلية، التي يبلغ بعضها حدّ التناقض المطلق فيما بينها، ما يفرض على الممثل مزيداً من الجهد الأدائيّ، كي يتمكّن من الخروج من شخصية والدخول في أخرى لا تُشبهها بشيء، ويُقدِّمهما في مستوى أدائيّ متمكّن من شرطه الفنيّ البديع.
يتمكّن ليونادرو دي كابريو ـ في ربع قرن فقط من العمل التمثيلي المتّجه لاحقاً إلى الإنتاج أيضاً ـ من بلورة حضوره الأدائيّ، بقبوله أنماطاً مختلفة من الشخصيات، بعضها مركَّبٌ كأن يكون الدور خاصّاً بمضطربٍّ عقلي، كما في "جزيرة شاتر" (2010) لمارتن سكورسيزي؛ أو بمُصابٍ بإعاقة ذهنية، كما في "ما يأكله جيلبرت غراب" (1993) للاس هالستروم؛ أو بمهووسٍ ذهانيّ ذي عقل مبتكر ومُصنِّع لمشاريع ضخمة، كما في "الطيّار" (2004) لسكورسيزي أيضاً، علماً أن تعاونه مع سكورسيزي يبلغ 5 أفلام في 11 عاماً، في حين أن هناك مشروعاً سادساً يجمعهما معاً في العام 2017 بعنوان "الشيطان في المدينة البيضاء".
تعاونه مع سكورسيزي تحديداً يبقى مساحة أساسية له في تمرينٍ مختلفٍ على معنى الممثل وحضوره في الشخصية، وعلى كيفية تحويل الشخصية إلى صُورةٍ حاذقةٍ لحالة أو نموذج بشري أو انفعالٍ، علماً أن التوجّه الثقافي ـ التأمّلي ـ التفكيكي لسكورسيزي، في أفلامه الـ5 هذه، منصبٌّ على إعادة رسم ملامح حِقَبٍ تاريخية خارج إطار "الرواية الرسمية"، أو حالات نفسية، أو وقائع مخبّأة، تُعرّيها كاميراه وتفضح شيئاً من خفاياها.
مع سكورسيزي إذاً، يخوض دي كابريو تجربة سينمائية تغوص في التاريخ التأسيسيّ لنيويورك (عصابات نيويورك)، وتنتهي بالعوالم الداخلية لـ"وول ستريت" ووحوشها الماليين، الغارقين في ملذّات ومتعٍ تتراوح بين جمع الأموال والاحتيالات المصرفية، وصخب الحياة الاجتماعية ("ذئب وول ستريت"، 2013). بينهما، يؤدّي الممثل الشاب دور شخصية حقيقية هي هاورد هيوز (1905 ـ 1976) في "الطيّار"، الذي يجمع بين سلوكٍ ذهانيّ مضطرب وعبقرية الاختراعات (الطائرة) وعشقٍ غريبٍ للسينما (منتج).
سيكون "الطيّار"، بالنسبة إلى ليونادرو دي كابريو، أول ترشيحٍ له لـ"أوسكار" أفضل ممثل، بعد نيله ترشيحاً سابقاً، لكن عن فئة أفضل ممثل مساعد، بفضل دوره في "ما يأكله جيلبرت غراب" (ينال الجائزة الممثل تومي لي جونز عن دوره في "الهارب" لأندرو ديفيز)، وأول "غولدن غلوب" لأفضل ممثل في فيلم دراميّ. يليه دوره كعميلٍ متخفٍّ داخل عصابة لـ"الجريمة المنظَّمة" يرأسها فرانسيس "فرانك" كوستيلّو (جاك نيكلسون) في "الراحلون" (2006)، الفيلم الذي ينال سكورسيزي بفضله "أوسكار" أفضل إخراج في دورة العام 2007؛ ثم المضطرب نفسياً في "جزيرة شاتر" (مشفى كبير للأمراض العصبية والاضطرابات النفسية)، القادم إليها للتحقيق في جرائم قتل واختفاء، قبل أن يكتشف حقيقة اضطراباته.
وصولاً إلى "ذئب وول ستريت"، ثالث ترشيحٍ له في فئة أفضل ممثل (ينال الجائزة الممثل ماثيو ماكنوغي، عن دوره في "نادي دالاس بويرز" لجان ـ مارك فالّي)، وثاني جائزة "غولدن غلوب" لكن في فئة أفضل ممثل في فيلم موسيقيّ أو كوميديّ. علماً أنه يحصل على ترشيحٍ آخر عن الفيلم نفسه بصفته منتجاً له.
البدايات الأولى لليوناردو دي كابريو عاديةٌ. فالموهبة، المتأتية من رغبةٍ عفوية في التمثيل، دافعٌ إلى انطلاقةٍ متواضعة في أدوار تلفزيونية، قبل أن يستتبّ الأمر له سينمائياً، بدءاً من الجزء الثالث من "مخلوقات" (1991) لكريستين بيترسن. لكن التألّق محتاجٌ إلى وقتٍ، والوقت لن يقف حائلاً دون بلوغ الممثل نجوميةً، تتأسّس فعلياً في تعاونه مع المخرج البريطاني مايكل كاتون ـ جونز في "حياة الصبيّ هذا" (1993)، وتُصقَل أكثر في "ما يأكله جيلبرت غراب"، قبل تأديته شخصية الشاعر الفرنسي آرثر رامبو (1954 ـ 1891) في "الكسوف الكلّي" (1995) للبولونية أنييسكا هولاند، عن العلاقة المضطربة والعاصفة بينه وبين صديقه وحبيبه المنفضّ عنه، الشاعر بول فرلين (1844 ـ 1896)، الذي يؤدّي دوره الممثل البريطاني ديفيد تويليس.
تسعينيات القرن الـ20 بدايةٌ وتمرين فعليّ على أداء يُلامس حيوية الشخصية وحساسياتها المختلفة، ويتنوّع كمنحى ثقافي ـ جمالي لاكتساب خبرةٍ ومعرفةٍ تتفتّحان براعةً في أدوار لاحقة، تؤدّي به إلى تعاونٍ وثيقٍ مع مارتن سكورسيزي، يبدأ بـ"عصابات نيويورك" (2002)، إلى جانب الممثل الإيرلنديّ دانيال داي ـ لويس، الذي يتنحّى دي كابريو عن مشروعٍ ينال إعجابه بعنوان "لينكولن" (2012)، "ناصحاً" مخرجه ستيفن سبلبيرغ بالتواصل مع من يراه دي كابريو الأقدر والأفضل والأهمّ "منه" لتأدية دور الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن؛ فإذا بداي ـ لويس بنال "أوسكار" أفضل ممثل عن تأديته الشخصية هذه في دورة العام 2013.
لن يبقى ستيفن سبلبيرغ خارج دائرة المخرجين المتعاونين معه. ففي العام نفسه لـ"عصابات نيويورك"، يُنجز سبلبيرغ "التقطني إن استطعتَ"، مستلّاً السيناريو من واقعة حقيقية تشهدها الولايات المتحدّة الأمريكية في ستينيات القرن الـ20، يرويها بطلها فرانك أباغنال جونيور في كتابٍ له بالعنوان نفسه، بالتعاون مع ستان ردّينغ: المحتال أباغنال جونيور (دي كابريو) يُجمِع عشرات ملايين الدولارات الأمريكية بفضل دهائه وحِيَله ومراوغاته، فيُطارَد من قِبَل عميلٍ في "المكتب الفيدرالي للتحقيقات" (توم هانكس) من دون جدوى. أما "المكتب" نفسه هذا، فسيكون بين يديّ الممثل في "جي. إدغار" (2011) لكلينت إيستوود، إذْ يؤدّي دي كابريو فيه دور جون إدغار هوفر (1895 ـ 1972)، مؤسّس ومدير الـ F.B.I. بين العامين 1935 و1972.
بالعودة إلى "أوسكار"، فإن ليوناردو دي كابريو يحصل على ترشيح ثانٍ له، عن دوره في "ألماس دموي" (2006) للأمريكي إدوارد زفايك، لكن الجائزة تكون من نصيب فوريست ويتايكر عن تأديته شخصية الرئيس الأوغاندي عيدي أمين دادا، في "الملك الأخير لاسكوتلندا" لكيفن ماكدونالد. الحرب في سيراليون، في العام 1999، والغرق في الدم وتجارة الألماس والألاعيب السياسية والتجارية، في قراءة سينمائية مندِّدة بواقع الحال المزري إنسانياً واجتماعياً.
ليلة الأحد هذه، 28 فبراير 2016، تشهد تنافساً جديداً لليونادرو دي كابريو في "أوسكار" أفضل ممثل، عن "ذا ريفيننت". ففي مواجهته، يُرشَّح كلٌّ من مات دايمون عن دوره في "المريخي" لريدلي سكوت، الذي يتعاون دي كابريو معه في "كَمٍّ من الأكاذيب" (2008)، المتوغّل في عمليات لعملاء تابعين لـ"وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية" في عمّان الأردنية؛ ومايكل فاسبندر عن دوره في "ستيف جوبز" للبريطاني داني بويل، الذي يتعاون معه الممثل في "الشاطئ" (2000)، عن شباب يجدون أنفسهم في مكان منعزل عن العالم؛ وبراين كرانستن في "ترومبو" للأمريكي جاي روش؛ وإدي ريدماين في "الفتاة الدانماركية" لتوم هووبر.
aXA6IDMuMjMuOTIuNjQg جزيرة ام اند امز