لابد لأي مفكر مهموم بالواقع الصعب لمنطقتنا العربية بل ومنطقة الشرق الأوسط، إلا أن يستدعي من التاريخ حرب الثلاثين عاماً
لابد لأي مفكر مهموم بالواقع الصعب لمنطقتنا العربية بل ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وما يمكن أن تؤول إليه التوترات والاحتقانات المذهبية والعرقية والدينية المتصاعدة فيها، إلا أن يستدعي من التاريخ حرب الثلاثين عاماً، ويضعها بكل مآسيها وبحور الدماء التي سالت فيها، أمام الذين ينفخون، بوعي أو من دون وعي، في نار الصراعات بين المذاهب والأديان، لعل هناك من يعي أو يفهم أن الحروب الدينية أخطر أنواع الحروب وأطولها وأكثرها دموية لأنها تتعلق بالعقائد والمقدسات والمعتقدات، ويخرج الجميع منها مهزومين، فلا منتصر في مثل هذه الحروب التي يذهب الآلاف بل الملايين من البشر ضحية لها. وأنا في هذا المقال أدق جرس إنذار قوياً، ليس للمتطرفين والمتعصبين الذين يفجّرون مثل هذه الحروب، فهؤلاء لا يعنونني ولا أهتم بهم لأنهم لا يسمعون إلا أصواتهم ويغلقون عقولهم أمام أي تفكير حر، لأنهم ببساطة يعتقدون أنهم يحتكرون الحقيقة، ولكني أتوجه إلى العقلاء والحكماء والمؤسسات الدينية والفكرية في العالمين العربي والإسلامي، لأن عليهم الدور الأكبر في وقف تنفيذ مخطط الفوضى القائم على وضع أصحاب المذاهب والأديان والأعراق في مواجهة بعضهم بعضاً ليُعاد رسم خرائط المنطقة على جثث الأبرياء ودمائهم.
لقد مزقت «حرب الثلاثين عاماً» التي اندلعت في الفترة ما بين عامي (1618 و1648) بين أتباع البابا والمذهب الكاثوليكي من جهة، وأتباع مارتن لوثر وجون كالفن والمذهب الإصلاحي البروتستانتي من جهة أخرى، القارة الأوروبية واكتسبت صفتها كحدث مفصلي بارز صنع تاريخ أوروبا الحديث بالنظر إلى سلسلة الصراعات التي فجّرتها، والتي بقيت مشتعلة زمناً طويلاً حتى بعد انقضاء سنوات الحرب الثلاثين، وبالنظر، إلى ما تمخضت عنه مِن تحوّلات استراتيجية كبرى شكّلت منعطفاً في الفكر والسياسة وبناء الدولة الحديثة ووضع أسس العلاقات الدولية أيضاً، خاصة أنها انتهت بما يعرف بـ«صلح وستفاليا» في عام 1648 الذي كان بداية لظهور الدولة الوطنية بما أقره من مبدأ «سيادة الدولة».
في البدء اندلعت نيران هذه الحرب في أراضي ألمانيا بصورة صراع ديني طائفي بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث كانت ألمانيا مقسّمة بالتعادل بينهما، ثم سرعان ما انتقلت إلى الدول الأوروبية الأخرى، إلى أنْ تحولت هذه الحرب الدِّينية إلى صراع سياسي على النفوذ بين تلك الدول، وهذا يؤكد صعوبة السيطرة على الصراعات المذهبية والدينية أو منعها من التمدد والتوسع. وبسبب الفترة الطويلة التي استغرقتها، فقد استنزفتْ «حرب الثلاثين عاماً»، الدول الأوروبية وأفقرت شعوبها وسادت بينهم الأمراض والمجاعات والنهب والسلب، إضافة إلى ملايين الضحايا الذين ذهبوا فيها، حتى إن المصادر التاريخية تشير إلى أن نحو نصف سكان ألمانيا من الذكور قد قتلوا خلالها، ولعل ما زاد من قوة الخراب والدمار في هذه الحرب أن «الإخوة الأعداء» استعانوا بجيوش من المرتزقة، لمساعدتهم في هذا الصراع الدموي الطويل.
لقد انقسمت أوروبا مع حركة الإصلاح الدِّيني التي قام بها مارتن لوثر إلى بروتستانت مؤمنين بأفكار لوثر التي قامت على التسامح والانفتاح والاعتدال ومواجهة القمع الدِّيني والفكري ورفض طاعة رجال الدِّين طاعة عمياء ونزع العصمة عن البابا، وكاثوليك معارضين لهذه الأفكار ومؤيدين للبابا والفاتيكان. ونظراً إلى أن البابا وجد في أفكار لوثر تهديداً لمكانته ونفوذه، فقد اتخذ موقفاً عنيفاً تجاهها، الأمر الذي أغرق أوروبا بحروب دينية طاحنة استمرت عقوداً، تحت شعار صدّ الخارجين عن الصواب الدِّيني. وهذا يشير إلى خطورة استخدام الدين كستار لتحقيق أهداف خاصة، ودفع البسطاء والعامة إلى الاقتتال والاحتراب والموت تحت رايات خادعة وشعارات مزيفة، وإلى أن الأفكار الدينية الإصلاحية دائماً ما تواجه بالرفض والشدة من قبل المستفيدين من الأوضاع القائمة، وأن قدر الإصلاحيين الدينيين، عبر التاريخ، أن يدفعوا ثمن مواقفهم الشجاعة وأفكارهم المستنيرة التي لا تعادي الدين وإنما تعمل على عدم استغلاله لخدمة أهداف خاصة، وجعله، كما أراد الله، قوة للتقدم إلى الأمام وليست أداة للتخلف أو العودة إلى الوراء.
حكمة التاريخ تقول لنا اليوم إنّ الجميع خاسر في الحروب الدِّينية والصراعات الطائفية والمذهبية، وما أحوج منطقتنا إلى أن تُصغي إلى هذا المنطق فتتسع صدور الجميع للاختلاف ويغمرها التسامح بدل البغضاء والكراهية، ولن يكون ذلك إلا بإشاعة التنوير، وبالشراكة المتساوية في رابطة المواطنة، وأنْ يكون الولاء للوطن والدول مُقدّماً على الولاء للدين والطائفة والمذهب.
«حربُ الثلاثين عاماً» جرسُ إنذار للعالَمين العربي والإسلامي من ويلات انتهاك السيادة الوطنية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول بدافع الغرور القومي أو العمى الأيديولوجي، وهي تحذير قوي أيضاً من مخاطر «الإسلام السياسي»، السُّني والشيعي على حدٍّ سواء، الذي يريد تسييس الدِّين وتديين السياسة، من أجل الفوز بغنائم الحكم والسلطة والتغرير بعقول البسطاء، خدمةً لمصالح ضيقة وفئوية أو ترويجاً لمشروعات عابرة للحدود الوطنية، تنتهك سيادة الدول وتشوّه الولاء الوطني، وتحتكر «الحقيقة الدِّينية» وتخوض حرباً عنيفة ضد التنوع والاختلاف، وهو الأمر الذي أشرت إليه بالتفصيل في كتابي «السراب».
«حربُ الثلاثين عاماً» درس من التاريخ مفاده أنّ إنكار الآخر وتكفيره وتأثيمه هو خريطة طريق للبؤس المستدام والخراب الذي لا يستثني أحداً، مثلما أنّ التعصب الدِّيني والانغلاق الطائفي والتخندق المذهبي بمنزلة وصفة مجانية للخراب وإشاعة الفوضى وتقسيم الشعوب وتمزيق نسيجها الوطني وتبديد مواردها البشرية والمادية والحضارية ونشر الحقد والكراهية وإقامة الحواجز بين أبناء الوطن الواحد، فهل نعتصم بالحوار السلمي ونحتضن أوطاننا ونُصغي إلى حكمة التاريخ، فنتوجه إلى البناء والتنمية بدل الهدم والتخلف، وإلى التنوير والحداثة بدلَ التجهيل والتعصب والاحتراب؟.. هذا هو السؤال، والحكيم مَن اتّعظ بغيره ووعى دروس التاريخ.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الاتحاد وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة