شكّلت ظاهرة «داعش» لغزاً محيّراً، لا سيما منذ لحظة صعود التنظيم وسيطرته على الرقة في سورية (صيف 2013)
شكّلت ظاهرة «داعش» لغزاً محيّراً، لا سيما منذ لحظة صعود التنظيم وسيطرته على الرقة في سورية (صيف 2013)، والموصل في العراق (صيف 2014)، وبالقياس إلى انتشاره، وتزايد قوته، وتوحّشه، في فترة قصيرة، لكن هذا اللغز ليس عصياً على التفكيك.
وفي الحقيقة، ومع كل الاحترام للدراسات في الحقول الأكاديمية، والتحقيقات الصحافية، فإن دراسة ظاهرة «داعش» تتطلب البحث في أضابير أجهزة استخبارات الدول المعنية (سورية والعراق) والإقليمية (إيران وتركيا وإسرائيل) والكبرى (الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)، لأنه من غير المعقول أن كل هذه الدول لا تعرف شيئاً عن هذا التنظيم، والأصح أن هذه الدول تتعمد الغموض والمبالغة، كل لأهدافه وبحسب سياساته وحساباته وتوظيفاته.
هكذا، وبالنظر إلى تعذّر كل ذلك في هذه الظروف، لا يتبقى لنا سوى التفكير بهذه الظاهرة، وقراءة حوادثها، بطريقة عقلانية، وبعيداً عن العواطف والآراء المسبقة، وهذه مجرد ملاحظات أولية:
أولاً، ليس شرطاً أن تكون ظاهرة ما أو جماعة ما تتبع هذه الدولة أو تلك، إذ يمكن إطلاق هذه أو تلك، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وتركها لتوليد دينامياتها الخاصة التي تصب في خدمة مطلقيها.
وطبعاً ففي هذا السياق يمكن لهذه الظاهرة أن تتقاطع مع أكثر من جهة، وأن تؤدي أحياناً أدواراً لا تناسب مطلقيها، على المدى القريب، أي أن تخليق هذه الظاهرة يبقى هو الهدف الأساس.
ففي مراجعة التجارب التاريخية لنأخذ ظاهرة «فتح المجلس الثوري»، أو جماعة صبري البنا (أبو نضال) مثلاً، فهذه ظاهرة تشكلت من خلال نظام صدام حسين في العراق، ثم وظّفت أدوارها في خدمة النظامين الليبي والسوري، وحتى في خدمة استخبارات بعض دول المنظومة الاشتراكية السابقة.
أيضاً لنراجع تجربة «فتح الإسلام»، في طرابلس لبنان، فقد تم تخليق هذه الظاهرة من قبل النظام السوري، في حاضنة «فتح الانتفاضة»، ثم تم ترتيب انفصالها عنها، وحتى أنها تركت لإقامة علاقات مع أطراف سنّية في لبنان، ثم بعد أن استهلك دورها، أو بعد أن تبرّم «حزب الله» منها، جرى استئصالها، واستئصال مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين معها.
لكن يبقى السؤال: أين اختفى شاكر العبسي زعيم «فتح الإسلام» المزعوم، والذي كان معتقلاً لدى الاستخبارات السورية، بعد أن اقتحم الجيش اللبناني المخيم؟ في هذا السياق لنتأمل ظاهرة محمود قول أغاشي (أبو القعقاع)، زعيم حركة «غرباء الشام» في حلب، الداعية الإسلامي وداعية العمليات الاستشهادية في العراق، والذي تبيّن أنه يعمل برعاية الاستخبارات السورية، ثم ظاهرة ميشال سماحة، وهو وزير سابق، وليس شخصاً عادياً، ومع ذلك تم تحميله حقيبة متفجرات، فكم ميشال سماحة في حجمه أو أصغر منه موجود في لبنان وسورية والعراق واليمن؟ هكذا حوادث تفيد بأن النظام السوري اشتغل على تخليق وتوظيف بعض الجماعات الإسلامية التي تنتهج العنف، فهو بذلك يخلق فوضى ثم يدعي أنه الكفيل بمحاربتها، كما أنه في ذلك يبقى مسيطراً بهذه الدرجة أو تلك على الجماعات الإسلامية، ناهيك أنه يوظف كل ذلك للدخول في علاقات تنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وغيرها بدعوى المشاركة في محاربة الإرهاب، كما فعل بعد الغزو الأميركي للعراق.
ثانياً، معلوم أن إيران هي التي ورثت تنظيم «القاعدة»، إذ أن معظم قياداته وجدت لها ملاذاً آمناً في إيران بعد الغزو الأميركي لأفغانستان، والذي كان النظام الإيراني شريكاً فيه (كما في العراق). ولنلاحظ هنا أن «داعش» لم يستهدف قط إيران، ولا أية أهداف إيرانية في أي مكان، على رغم أنه استهدف دولاً عدة ومن ضمنها دول خليجية.
ثالثاً، ما يلفت الانتباه أن النظام السوري الذي عاش على القطيعة مع نظام صدام، أو نظام البعث في العراق، واستنزف طاقة سورية والعراق في هذه القطيعة، عمل على احتضان ضباط استخبارات وجيش العراق، بعد 2003، ليس لسواد عيونهم، وإنما للاستثمار فيهم في تخليق جماعات قتالية تذهب للعراق، لخلق الفوضى، أو للاستثمار في الفوضى، ثم ادعاء التعاون مع أميركا في محاربة الإرهاب، وقد كشف العديد من التقارير أن «داعش» هو خلطة من إسلاميين متطرفين وضباط عراقيين سابقين. وبديهي أن هذا لا يتعارض مع سياسة إيران التي هيمنت على العراق عبر ميليشياتها، لأنها، في حقيقة الأمر، لا يهمها الشيعة العرب، إلا بقدر طاعتهم لقيادتها، واستخدامهم كوقود لسياساتها، وهي تشتغل وفق عقلية يا لعّيب يا خرّيب، أي إما أن يخضع المشرق العربي لسيطرتها، أو فليذهب نحو الخراب، وهذا ما يفسر اشتغالها على تصديع المجتمعات العربية، وإثارة النعرات الطائفية/ المذهبية فيها، الأمر الذي نجحت فيه، مع الأسف، في حين فشلت إسرائيل في ذلك؛ منذ قيامها قبل قرابة سبعة عقود.
رابعاً، في غضون كل ذلك، وبعد أن خلقت الظاهرة «الداعشية»، اشتغلت باقي الدول على التوظيف في هذا المشروع كل لصالح سياساته وأولوياته، بهذه الطريقة أو تلك، وبهذا المستوى أو ذاك.
والشاهد أن الولايات المتحدة، مثلاً، تركت هذه الظاهرة تستفحل من دون أن تفعل شيئاً، وحتى غاراتها الجوية بعد ذلك لم تكن فعالة أو جدية، في حين انصبّ اهتمام تركيا على كبح طموح الأكراد في إطار صراعها مع حزب العمال الكردستاني، أما قطر وبعض الدول الخليجية فظنت أن هكذا خطر ربما يشجع أميركا على التدخل في سورية.
خامسا، الآن لنفكر كيف تم اقتحام سجون بغداد حيث تم تهريب حوالي ألف معتقل (في تموز/يوليو 2013)، ثم كيف سقطت الموصل (في حزيران/ يونيو 2014) بكل سهولة، وكيف استولى «داعش» على بلايين الدولارات، من المصرف المركزي في المدينة، وعلى أسلحة أربع فرق عسكرية عراقية (أي جيش كامل)، وقد تبين أن نظام نوري المالكي هو المسؤول عن كل ذلك، وهذا تكرر في سيطرة «داعش» على الرقة، ثم على تدمر في سورية (2015)، إذ انسحب الجيش السوري من هذه المناطق، التي تحتوي على مخازن أسلحة كبيرة، وهاتان «الغنيمتان» الهائلتان، أي السلاح والمال، مع السيطرة على الموصل، وتهريب السجناء، هي ما أسهمت كثيراً في صنع أسطورة «داعش».
سادساً، طوال الفترة الماضية لاحظنا أن جهد «داعش» انصب في معظمه على مواجهة جماعات «الجيش الحر»، وعلى أخذ المناطق التي تخضع له، وللجماعات العسكرية المعارضة الأخرى، أكثر بكثير من انشغاله بمحاربة النظام. في المقابل فإن البراميل المتفجرة التي اعتاد النظام إلقاءها على مناطق في المدن السورية، والتي دمر بواسطتها أحياء كاملة من مدن حلب وحمص ومناطق كثيرة في دمشق، لم تستهدف قط القوافل السيارة لـ «داعش» التي كانت تسرح وتمرح، ليلاً ونهاراً، طوال العامين الماضيين، بين باديتي سورية والعراق، حتى القصف الروسي لم يستهدف مناطق سيطرة «داعش» في شرق وشمال شرقي سورية، وإنما استهدف حلب وريفها وشمالها، ومجمل مناطق سيطرة «الجيش الحر»، وهذا ينطبق على مناطق قتال «حزب الله» في الزبداني وغيرها.
سابعاً، هذه القراءة تفيد أيضاً، بأن «داعش» وأخواته، أو أية جماعة مرتبطة بـ «القاعدة»، بشكل أو بآخر، ليست وليدة البيئات الشعبية السورية، على ما يروج البعض لأغراض سياسية هدفها نزع شرعية الثورة السورية، أو الحط من مقاصدها المتعلقة بإسقاط النظام، والذهاب نحو التغيير السياسي الديموقراطي، كما ليس القصد من ذلك أن الشعب السوري بريء تماماً من النزعة الدينية أو الطائفية، وإنما القصد أن هذه الجماعات التي ظهرت على شكل جماعات عسكرية دينية وطائفية متطرفة ليست وليدة طبيعية لتلك البيئات، ولم تنشأ نتيجة الحراكات داخل تيار الإسلام السياسي في سورية، وإنما نشأت في دوائر استخبارات هذه الدولة أو تلك، وتم تمكينها من المال والسلاح، لا سيما من أنظمة سورية والعراق وإيران، ثم جرى الاستثمار فيها من دول أخرى، لأغراض متباينة، وتركت تتمدد لغايات وظيفية معينة، من ضمنها إشاعة الخراب في المشرق العربي. والفكرة هنا أن تيار الإسلام السياسي السوري، ولا سيما «الإخوان المسلمين»، هو تيار ضعيف أصلاً، كما بينت حوادث الثورة السورية، وأن غالبية المنتمين إلى التيار الإسلامي، الصوفي والدعوي، تشتغل ضمن آليات عمل النظام، وأنه لا يوجد تأسلم أيديولوجي في المجتمع السوري. أما ما حصل في ما بعد فقد جرى نتيجة المسارات التي انتهجها النظام، أي تغليبه العنف والطائفية، للحفاظ على السلطة، وجر الثورة إلى نفس مواقعه، من دون أن نغفل في ذلك دور بعض الأطراف الخارجية، المحسوبة على أصدقاء الثورة التي اشتغلت على إضعاف «الجيش الحر»، وتخليق جماعات معارضة مسلحة مع خلفية دينية ـ إسلامية، في إطار السعي للسيطرة على هذه الثورة والتحكم بمساراتها وتوجهاتها بدليل أن معظم قادة هذه الجماعات وأنويتها الصلبة هم من الوافدين من غير السوريين.
قصارى القول أن كل الأطراف استثمرت في تخليق ظاهرة «داعش» وأخواته، لكن هذه الظاهرة هي وليدة نظم الاستبداد، وهي مخلوق مشوّه ومتوحّش، يراد منه نشر الفوضى كي يأتي من يقول أن النظام أفضل من «داعش»، وأن بقاء النظام هو الحل الأمثل. هكذا يشتغل النظام وحلفاؤه أي روسيا بوتين وإيران خامنئي، وهكذا وصلنا إلى هنا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة