آمن «أيوب» المصرى بكل ما دعا إليه الزعيم «جمال عبد الناصر» كان قد آمن سلفا بأنه (إن كان شيل الحمول على ظهرك يكيدك
«أيوب» المصرى تفتح وعيه فى أربعينيات القرن الماضي، وعبر الإذاعات المحلية المنتشرة كان يأتيه صوت سيد درويش يغنى «شد الحمول على وسطك غيره مايفيدك» وتربى على النصيحة فشد الحزام تماما، وعاش على الأمل «لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك».
آمن «أيوب» المصرى بكل ما دعا إليه الزعيم «جمال عبد الناصر» كان قد آمن سلفا بأنه (إن كان شيل الحمول على ظهرك يكيدك، أهوَّنْ عليك ياحر من مدت إيدك)، وحين أعملت النكسة معولها فى نفوس أهل مصر، استيقظ «أيوب» المصرى وفى حلقه غصة مرة، صنعتها خيبة الأمل التى راحت تتسع لتشمل الوطن ومكوناته، لم يعبر هذه الفرحة بخبر قدوم «أيوب الصغير» الذى تفتح وعيه هو الآخر على أغنية «حبايب مصر» للتونسية «عليا» فلقد ورث المرارة عن «أيوب الأكبر» كانت مرارة حصار الهزيمة، أقوى من أن تسكن أوجاعها فى النفوس أغنية، وحين استيقظ المصريون على تمام بدر العبور فى السادس من أكتوبر، استرد أيوب الكبير والصغير من جديد حاسة التذوق ليرددا مع الصوت التونسى (ما تقولش إيه ادتنا مصر قول هاندى إيه لمصر).
لكن هزيمة حقيقية كانت قد ألمت بـ (حلم أيوب الأب والابن)، لم يكن العبور وحده هو الكفيل بعلاج آثارها، هزيمة من نوع خاص، أحدثت جرحا بينهما وبين الوطن (الدولة)، والمقصود هنا دولة 23 يوليو، تلك التى نشأت لأول مرة من الرحم الشعبى المصري، وحلمها أن تنتج حاكما نموذجا، يحتفظ «أيوب الأب» ومن بعده الابن بما سجلته المحاكى الشعبية عن ذلك الحاكم الحلم، وجولاته الإنسانية، وفتوحاته العسكرية. وما تغنى به «السييطة» عن سطوة شخصيته، وقوة حجته، وبساطة منطقه، ورحابة صدره فى مواجهة شعبه.
وعمقت دولة الانفتاح الساداتى وجع الجرح الحادث بين (أيوب الأب و الابن) و (الدولة)، وعاد الشك فى أمل صنعته أغنية (حبايب مصر)، حتى كان يجلس «أيوب الأب» المثقل بوجع وطنه، على كرسى القهوة وأمامة «أيوب الصغير» ينظر بلهفة إلى لفافة من ورق الصحف فى يد أبيه، الذى سريعا ما يفردها لتكشف عن رغيفين «بلدى» مشطورين، يحتضن أحدهما بضع ملاعق فول، فيما يوارى الآخر أقراصا من الطعمية، وينبعث من الراديو صوت عليا التونسية مرددا (ما تقولش إيه ادتنا مصر قول هاندى إيه لمصر)، فيبتسم «الأب» الموجوع وهو يرفع لفافته قائلا (معايا فول وطعمية يا مصر .. تاخدي؟!)،.
ابتسم «أيوب الابن» واحتفظ بالتعليق فى ذاكرته لتصبح قصة يرويها عن قدرة «أيوب الأب» على السخرية من مرار انكسار الحلم، ذلك الذى كان فى قيادة راعية تدير بوعى لتصنع مواطنا ينتصر فى كل الميادين، ولا تناله الهزيمة فى جولة من توريط أو تفريط، وحين يحرر الوطن تنعكس انتصاراته ثقافة بناء، لا قوانين «الفهلوة» وقواعد «المحسوبية» ولوائح «الغباء» وقرارات «العناء».
استسلم «أيوب الأب» ومعه الابن لعقود «الفساد والإفساد» لم يجاريا قيمها لكنهما لم يقاوماها، آمنا تماما بأن «لله حكمه» وكان أن اتسعت العائلة فشملت أحفادا، جيل جديد من «أيوب المصري» خرجوا جميعا إلى الدنيا فى «مصر مبارك» حيث وطن آخر غير ذلك الذى يحكى عنه الجد ويتحاكي، وغير ذلك الذى يسخر منه «الأب» نشأ جيل جديد لا يعرف لـ «مصر معالم، وقرر الاعتماد على نفسه فى بناء معارفه عن ذلك الوطن الذى يؤويه، وبدأ الجميع فى رسم صورة عن «مصر» كيفما رأوها وعاينوا واقعها وتصاعدت حوادثها، كان «أيوب» الأحفاد مجموعة العميان التى عاينت الفيل للمرة الأولي، وحين خرج بعض «أحفاد أيوب» فى 25 يناير 2011، لم يكونوا جميعا مخلصى النية، ولكن المخلصين منهم كانوا يحملون جينات أيوب الجد التى تذوب عشقا فى مصر، والقادرة على احتضان بذور أمل ظلت كامنة فى «جيناتهم» تقاوم كل ذبول. وبهم تتترس كل مؤسسات الدولة فى مواجهة محاولات التنظيم لاغتصاب الوطن واستدماجه داخل وحداته التى لها يدير وأقطاره التى عليها يسيطر. حتى وضعت دولة 30 يونيو أقدامها على أول الطريق.
وهكذا صار جيل من «أحفاد أيوب المصرى» مع جيل «الآباء» وبقايا جيل «الأجداد» هم المكون العام لصاحب السيادة «الشعب».
والذى يمثل القلب الخشن للدولة المصرية المنشودة، وبالتالى أصبحوا الهدف الرئيس لكل محاولات النيل من «الحلم المصري» القديم فى وطن يسود، وقائد يرعي، ومواطن ينتمي.
وإن كانت أجيال حالية من «أيوب المصري» فى مرمى الاستهداف، فإن من واجبها أن تستوعب حجم الاستهداف المحدق بها، وهو مالا يتم إلا عبر وعى الموكل بالإدارة - الرئيس- بحجم هذا الاستهداف، يترجمه إلى وثيقة وطنية تتبناها جميع المؤسسات، على أن تشمل أولى أدواتها «إعلاما وطنيا» قادرا على الإحساس بأوجاع كل «أيوب» فى هذا الوطن، ورسم صورة متعددة الأبعاد للوطن الذى كان ومن بعده الوطن المنشود، وساعتها يبصر «أيوب المصري» ما غاب عنه من جذور تربطه بوطنه، فيتمكن من مواجهة عواصف الاستهداف التى تستهدف خلخلة جذوره، عبر يقين بأنه عضو أصيل فى جميع هو «صاحب السيادة» الذى يسهم بكل طاقاته فى صناعة وطن يحترمه ويحميه ويطور قدراته، وساعتها سيكون التفاعل مع مبادرات من نوعية (صندوق تحيا مصر)، أو (صبح على مصر)، مجرد حلقة تفاعل فى دائرة بناء وطنى متكاملة، وحتى يتحقق ذلك سيظل كل أيوب مصرى (يِصَبَّحْ) على مصر (بعنف وبرقة وعلى استحياء) و (يكرهها ويلعن أبوها بعشق زى الداء) أو كما قال عمنا العاشق لمصر صلاح جاهين.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة