المفارَقة واضحة إلى حدّ التحدى السافر: من إحدى ناحيتيها، المواد القانونية التى تُجَرِّم ما يُسمى ازدراء الأديان
المفارَقة واضحة إلى حدّ التحدى السافر: من إحدى ناحيتيها، المواد القانونية التى تُجَرِّم ما يُسمى ازدراء الأديان، والتى لم يعد خافياً أن أهم مستهدفاتها، أو نتائجها العملية على الأرض، تقييد حريات التعبير والإبداع والبحث العلمى، وتغليظ العقوبات على من يمارسونها، وصارت تبعاتها تتحقق خلال الأشهر الأخيرة بمعدلات مخيفة. ومن الناحية الأخرى، أن يستفيد، هذه المرّة، من هذه المواد المعيبة تنظيم داعش الذى هو أشهر من أن يُشار إلى جرائمه وتخلفه وهمجيته وتوحشه.
وأما الواقعة، فهى التى صدَمت الجميع قبل أيام قليلة بحكم قضائى بحبس أربعة أطفال أقباط طلاب فى المدرسة الثانوية فى إحدى قرى محافظة المنيا، 5 سنوات لكل منهم، إضافة إلى حبس مدرسهم 3 سنوات، بعد إدانتهم بأنهم اقترفوا جريمة ازدراء الإسلام، لأنهم، وفى أثناء رحلة صيف خلال عام 2014، قاموا بأداء مشهد تمثيلى تهكموا فيه على إرهابيى داعش الذين قتلوا فى ليبيا 20 مواطناً مصرياً من محافظة المنيا، وراح الإرهابيون يؤدون صلواتهم بعد جريمتهم الشنيعة. وقد قتلوهم فقط لأنهم أقباط، كما قال الإرهابيون بأنفسهم، ودون أن يوجهوا لهم أى اتهام، أى أنه كان ذبحاً على الهوية الدينية! وهى معلومة موثقة ليس أمام الجميع إلا أن يذعنوا لصحتها حتى مَن لا يحب أن يُصنِّف الناس على أديانهم.
وعلى سبيل التذكرة، لمن يكون قد نسى بعض التفاصيل، فإن الرئيس السيسى، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، أصدر أوامره للقوات الجوية أن تقصف مواقع داعش فى ليبيا، قبل أن يطلع أول صباح على إعلان مقتل الشهداء المصريين، وكان لهذا القرار الفورى الحاسم وقع طيب على الرأى العام بردّ بعض الاعتبار للكرامة الوطنية المهانة وللمشاعر الجماهيرية المكلومة، كما أنه كان عامل تهدئة لقلوب أمهات وآباء وإخوة وأقرباء وأصدقاء الضحايا الأبرياء من أبناء الصعيد.
وقد تزامن مع هذا أن انتشرت على الإنترنت عشرات، وربما مئات، المشاهد التمثيلية الساخرة من داعش ومن نشيدهم «صليل الصوارم» ومن هتافهم بالتكبير بعد كل مجزرة يقترفونها، والتى استُخدِم فيها سلاح النكتة المصرية، وكان من أهم نتائجه الإيجابية، ليس فقط الاستهزاء بصورة داعش التى كان يُخطَّط لها أن تكون باعثة على الرعب لا السخرية، وإنما أيضاً تحقيق التوازن النفسى الجمعى للجماهير الحزينة قليلة الحيلة إزاء الجريمة البربرية.
وقد جاء المشهد التمثيلى لهؤلاء الأطفال فى نفس الوقت وفى نفس السياق وبنفس المعنى. ولكن البعض أراد، وأفلح فيما أراد، أن يكيل هذه الواقعة بميزان آخر.
ومن المهم أن تُسَجَّل هذه التفاصيل المهمة، وفق ما ذكرته بعض الصحف والبيانات الحقوقية: كان طول الجزء المصوَّر من المشهد التمثيلى 28 ثانية فقط لا غير، كما أن تسجيله كان على موبايل المدرس، وأنه ظل مخزوناً على الشريحة لمدة عام كامل لم يَعرف عنه أحدٌ شيئًا، إلى أن ضاعت الشريحة ووقعت فى يد بعضهم، فروَّج لها بقصد استثارة عموم المسلمين فى القرية بأن الإسلام فى خطر! أى أن ترويج وذيوع الشريط على مدى واسع كان على أيدى بعض المسلمين!
ثم انظر إلى التتابع: اشتعلت النفوس وخرجت المسيرات الطائفية فى القرية تهتف ضد المسيحية والمسيحيين، وتعتدى على ممتلكاتهم وترشق منازلهم بالطوب وتحاول أن تقتحم كنيسة القرية! وكادت الأوضاع تتفاقم إلى الأسوأ لولا مساعى بعض العقلاء من المسلمين ونجاحهم فى فضّ التظاهرة.
ولكن الأحوال تدهورت فى الأيام التالية، مما دعا إلى الحل التقليدى بعقد جلسة عرفية وهو ما أثبتت التجارب السابقة أن أثره لا يتجاوز تهدئة التوتر إلى حين، فضلاً عن ترسيخه مبدأ غياب القانون.
وكان من نتائج المجلس اتخاذ قرار بتهجير المدرس بعيداً عن قريته ومعه قرينته وأطفاله الصغار! وهو قرار ينتهك الدستور الذى ينصّ (فى المادة 63) على أنه يحظر التهجير القسرى التعسفى للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم. ولم يتخذ المجلس قرارات ضد المعتدين على عموم المسيحيين الذين لم يُذكَر أنهم كانوا أطرافاً فى الموضوع. بل إن أحد كهان الكنيسة هو الذى قدم اعتذاراً لمسلمى القرية، رغم أن الكنيسة لم تكن فى الموضوع حتى بفرض أن هنالك ازدراء.
واستمر التصعيد، بإلقاء القبض على المدرس والتلاميذ، وراحت النيابة تجدد حبسهم عدة مرات بعد أن وجهت لهم تهمة ازدراء الإسلام، وأما جهة عمل المدرس فقد رفضت الاستجابة لطلبه بالنقل، فى عقاب آخر بإجباره على التشتيت بين مكان إقامته الجديد وعمله القديم، بل لقد رفضت أيضاً صرف راتبه خلال احتجازه، أيضاَ ضد القانون الذى يضع إجراءات لصرف جزء من الراتب للأسرة فى أثناء غياب عائلها بسبب اتهام من النيابة!
هذه الأخطار، التى يجب أن تكون الأولوية لدرء أسبابها، ترتكن إما على نصوص قانونية سارية، مثل المواد التى تتحدث عما تسميه «ازدراء للأديان» أو على غياب قواعد قانونية أخرى يجب أن تُسن، مثل تجريم فعل المتهادنين مع مقترفى العدوان الجمعى، حتى لو صدق الاتهام لفرد أو لمجموعة أفراد ممن ينتمى أو ينتمون للفئة المعتدَى عليها. المطلوب احترام الدستور الذى ينصّ (فى المادة 95) على أن العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى. ولكن هناك من يستولون على سلطات الدولة ويقومون بأنفسهم بأدوار أجهزة الدولة مجتمعة، بدءاً من الاتهام إلى الإدانة وتنفيذ العقوبة! ولا يليق أن تُطلَق يدُ هؤلاء دون ردع، فى وقت يتحدث الدستور عن هدف استكمال بناء دولة ديمقراطية حديثة.
وبحساب الخسائر، فإن الرئيس والحكومة عُرضة دائماً فى مثل هذه الواقعة للنقد ولتحميل المسئولية، رغم أنه لا يمكن تصور أن تعود عليهم بأى فائدة، وكذلك رغم أن هذه التشريعات المعيبة، التى بسببها سار الحدث هذا المسار، هى من موروثات العصور البائدة. وهذا أدعى لأن تبادر الحكومة بالدفع بمشروعات تعديلات على هذه النصوص التى تضرب الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى فى مقتل، وأن تقترح المشروعات الأخرى التى تعزز استتباب الأمن العام، وعلى البرلمان أن يولى الموضوع ما يستحق من اهتمام، وعلى كل الأطراف أن يعملوا طاقتهم لترويج الأفكار المأمولة التى تلتزم بمواد وروح الدستور، والتى تضع النموذج لعلماء الأزهر فى كيف تكون الثورة الدينية التى طالبهم بها الرئيس.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة