معرض مروان رشماوي "من بيروت إلى العالم": الفن كبيان سياسي
مروان رشماوي، فنان يطابق باستمرار بين مضمون بحثه وموضوعه وبين المواد المستخدمة لبناء تجهيزه.
ظل مفهوم "الفن التجهيزي installation" طوال عقدين، في نماذجه المحلية واهن الصلة بالخطاب الثقافي العربي واللبناني، بدا دومًا، بتلك النماذج والاقتراحات، امتدادًا وأصداء لتجارب الثقافات الحديثة في المدن البعيدة.
كان الفن التجهيزي الذي يقدمه فنانونا يجعلنا نعاين عن قرب هذه "التقنيات" الجديدة ما بعد النحت والتركيب والتشكيل، من دون أن نجد على الأغلب ذاك "الحوار" بين حساسياتنا وهمومنا ووجداننا وذاكرتنا من جهة، وبين التعبيرات والأفكار والمضامين، الطالعة من مادة وتركيبة وهندسة وشكل وأدوات "التجهيز"، من جهة ثانية.
كان ذلك يضعنا باستمرار في حال انتظار وترقب: متى ينبثق فن تجهيزي عربي ومحلي؛ أي فن طالع من تربتنا، من ذاكرة مكاننا، من لغتنا، من مخزوننا الثقافي، من سيمياء عوالمنا، من مستودع علاماتنا.
أذكر نماذج الفنانة منى حاطوم مثلًا، فقوة تجهيزاتها تنطوي على خطاب تعبيري يحمل وعي المنفى (الفلسطيني، وتاليًا الإنساني)، هو تجهيز مفعم بطاقة الإيحاء، وحضور المعنى داخل عمران الشكل ومتانته البنائية، ثمة دومًا في أعمالها ذاك الوعي بالهوية بالتوازي مع التحرر من الهويات في الوقت عينه.
في كل مرة تنتظم فعالية ثقافية تضم عروضًا للفنون التجهيزية، أجد نفسي منقادًا إلى عمل الفنان مروان رشماوي، فنان يطابق باستمرار بين مضمون بحثه وموضوعه وبين المواد المستخدمة لبناء تجهيزه، أن يقرر مثلًا مقاربة شوارع بيروت فيكون تجهيزه من مادة الباطون، وأن يقارب مشهد المدينة بمادة الكاوتشوك، هذا التلاحم بين المادة أوالأداة من ناحية، والمضمون المخبأ في الشكل البنائي لـ"التجهيز" من ناحية ثانية، هو ما يمنح أعماله تلك الصلة الحوارية مع عيننا المحلية ومع حساسيتنا.. وأسئلتنا.
في الشتاء المنصرم، قدم مروان رشماوي، ضمن مهرجان "أشغال داخلية" السابع في بيروت، قسمًا من مشروعه "من بيروت إلى العالم"، اختار سطح مقر جمعية "أشكال ألوان" المنظمة للمهرجان، كمكان مفتوح على الهواء الطلق، تحت السماء الليلية، ليعرض "تجهيزه"، هذا الاختيار للمكان وللوقت المسائي أضاف للتجهيز نفحة شاعرية ورومانسية، طالما أن العمل هو عبارة عن رايات قماشية معلقة على حبال تعلو السطح بثلاثة أمتار تقريبًا، ما يجعل الناظر متطلعًا إلى فوق، صوب رايات كثيرة يداعبها الهواء يعلوها الليل المرصع بالنجوم.
اليوم، يقدم رشماوي معرضه كاملًا في غاليري "صفير - زملر"، داخل صالة مقفلة، مانحًا إياه عنوانًا أكثر تحديدًا: "بلازون"، وهو بلغة الفروسية، الإشارات والرايات والدروع، التي تميز الجماعات المحاربة أو هي العلامات العائلية أو العشائرية أو الدينية أو السياسية.
يمكننا التعريف بهذا الفنان، الفلسطيني الأصل، اللبناني الولادة والإقامة والتجربة، البيروتي الهوى والمزاج، أن أعماله كانت دومًا تستقي مادتها من جغرافية بيروت وتاريخها المعقد والمتعدد الثقافات، وهي غالبًا ما تعكس موضوعات التحول المديني والديموغرافيات المعاصرة، بتغيراتها الاجتماعية والسلوكية.
هكذا، تتحول المدينة -بتآلفها الحميم وحكاياها المحلية- إلى مساحة متعددة الأوجه للحوار بين الهندسة والتخطيط المدني والاقتصاديات السياسية والتمايزات الاجتماعية والتواريخ المتباينة.
العارف والمختبر للعيش في بيروت، يدرك ضمنًا تلك الخريطة الوهمية والافتراضية والمتذبذبة للعاصمة اللبنانية، خريطة السكن والتوزع الأهلي والطائفي والحزبي والطبقي، إلخ.. التي تميز أحياء وشوارع ومناطق بيروت.. ويدرك أيضًا النشاط الذي تبديه الجماعات في بث الإشارات والعلامات التي تعين حدودها الجغرافية المفترضة، وترسم خطوط تماسها ونفوذها.
ما يفعله مروان رشماوي في معرضه هو تثبيت تلك العلامات، استنطاقًا ورسمًا لخطوط التماس الجديدة، خطوط التحارب أو التقوقع والتحصن، بعد الحرب الأهلية واستمرارًا لها بوسائط أخرى، ويعمد الفنان في بحثه السيميائي هذا، إلى التنقيب في التواريخ الشفهية والمكتوبة للأحياء والمناطق المتجاورة داخل بيروت، ليتوصل إلى التقاط رمزها الافتراضي، علامتها أو رايتها.
على هذا النحو، واعتمادًا على نظام الفروسية ولغتها الـ"بلازون"، يولد رشماوي عددًا من الشعارات والرايات التي ترمز لكل حي أو محلة في العاصمة، النتيجة النهائية لرسم تلك الخريطة كانت 400 راية و59 درعًا، تشير إلى "مجتمعات" بيروت وقطاعاتها.
هكذا، تنطوي خريطة التخطيط المُدني تحت خريطة واقعية أكثر تعبيرًا عن حقيقة بيروت، بوصفها مدنًا عدة، منقسمة وفق انتماءات أهلية وسياسية واجتماعية ومذهبية، وقائمة على ذاكرة من تواريخ اشتقاقية وفرعية لكل جماعة أو طائفة، وعدد الرايات والدروع ينسجم مع انقسام المدينة وفقًا للأسماء الممنوحة رسميًّا (أو شعبيًّا) لكل منطقة، التي ترتكز على عناصر جيولوجية، أو على هيمنة رموز أو أسماء ذات صلة معنوية قوية بالطائفة أو الجماعة التي تقطنها.
توسعًا في مقاربة هذا المعرض، كانت لنا دردشة مع مروان رشماوي:
* ما الفارق بين عرضك على السطح، في الهواء الطلق، وداخل الصالة المغلقة؟
- الفارق كبير جدًّا.. العرض هنا اختزالي، صامت ومعزول عن الخارج، ويسمح بقراءة هادئة دون تأثيرات خارجية، بينما كان المعرض على السطح جزءًا من أمر أكبر منه بكثير، محاطًا بمشاهد المدينة وبالأصوات والضجيج والإضاءات الغامرة، والأهم، هو رومانسية الهواء ومداعبته للأقمشة، هنا الصمت والجمود، ما يعطي للعمل مساحة أوسع لأن يحضر أكثر وبقوة.
* هل هي صدفة أن يكون الحائط في منتصف الصالة يقسم رايات المدينة بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية، تمامًا كالانقسام في زمن الحرب؟
- هي صدفة وجوده، وليس صدفة في استثمار وجوده، "الخط الأخضر"، كما كانت تسمى خطوط التماس، يقع في منتصف المدينة تمامًا، والحائط هنا في منتصف الصالة تمامًا، لم أمانع بهذا التفسير.. برأيي خط التماس ما زال قائمًا، مع مفارقة أني أحاول أيضًا تظهير خطوط التماس الجديدة، القائمة في داخل النصفين التقليديين.
* رغم وضوح فكرة المعرض، يجوز السؤال: ما الذي تحاول قوله؟
- أحاول تسجيل وجود الجماعات في بلد مضطر للعيش فيه.. التراكمات من اللاحلول واللامصالحات بعد الحرب الأهلية، إضافة إلى ضعف الدولة جعلت المدينة هكذا، بؤرًا تظهر بشكل طبيعي من غير وجود بيئة للمصالحة ولتذويب الفروق وإزالة الحدود.
لذا بحثي هو تنظيم وفهم العلامات واليافطات والرايات واستنطاق الرموز التي تبثها الجماعات: ورقة النعوة التي تلصق على جدران الأحياء، جملة مكتوبة على حائط، غرافيتي، علم حزبي، صورة نائب أو زعيم سياسي، الاسم الأصلي الرسمي للشارع أو المنطقة.. إلخ.
هذا إضافة إلى أني أحاول تثبيت خريطة جغرافية وطوبوغرافية للمدينة، كأن أعتمد مثلًا راية مرسومًا عليها درج حجري، تدليلًا على منطقة معينة بين شارع مار نقولا وحي السراسقة، أو أختار العلامة التجارية لمشروب "مارتيني"، كشعار للأمكنة الخاصة بالحياة الليلية.
* المعرض كأنه بيان سياسي.. هل توافق؟
- يبدو هذا واضحًا في الدروع التي أعرضها، فمعها تظهر بيروت عبارة عن حصون وجيوب، تعيش مستنفرة ومتأهبة قبل كل خروج صباحي، يوميًّا.. كأننا معسكرات: 59 كتيبة لكل منها ضابط يقودها حاملًا رايته المميزة.
* بمعنى أخير، هي قراءة سوسيولوجية لمجتمع بيروت وذاكرتها؟
- هذا المعرض هو وداع للمدينة الحداثوية التي كنا نعرفها، وفق النظرة الرومانسية للمدينة أو حسب رؤية الشاعر الفرنسي شارل بودلير، هو انتقال إلى نظرة المثقف المابعد حداثوي للمدينة، نظرة تفكيكية.. وبالنسبة لي، انتبهت أني أودع حقبة معينة، وأدون ملاحظات لفهم فضاء المدينة اليوم، التي هي بطور التشكل، بمنطق مختلف عن كل ما سبق، وغير متوقع، وهنا أنحاز لأسلوب "الأطلس" وليس "الجغرافيا"، أي جمع ما لا علاقة ببعضه البعض سوى في مصدره، أي في التنوع الذي يجعل بيروت مثلًا ودية وجذابة للزائر، فيما هي عبارة عن احتشاد 40 سنة من التقاتل العلني أو الصامت، العنيف أو البارد، بين الجماعات، جاذبيتها متأتية من تناقضاتها، التي تولد ديناميكيتها، تمامًا مثل حركة الدوس على تروس الدراجة الهوائية.