هناك ثمة متغيرات عالمية وإقليمية ومحلية عملت على ترسيخ مفهوم «المواطنة»
هناك ثمة متغيرات عالمية وإقليمية ومحلية عملت على ترسيخ مفهوم «المواطنة» حتى بات من المفاهيم الأصيلة فى
البناء الدستورى والقانونى والاجتماعى فى نظام الدولة الحديثة، وهو مفهوم يقضى بتفعيل مبدأ المساواة بين المواطنين داخل الدولة الواحدة دون التفات أو تمييز لطائفة على أخرى باعتبار الدين أو العِرْق أو اللغة أو اللون. وهى أبعاد ومضامين تتجلى إجمالًا فى بيان حقوق المواطن - دون تمييز - على الدولة، وواجباته،أى المواطن، نحو الدولة، وتقتضى بالضرورة الاتحاد بين مواطنى الدولة لإعمار الأرض، والتعاون فى المتفق عليه انطلاقًا من القيم العليا المشتركة بين الناس. ولا ريب أن تلك المعانى السامية تؤيدها المقاصد الكلية فى الإسلام؛ حيث إنه ينظر إلى الناس جميعًا باعتبار مبدأ وحدة الأصل البشري، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء: 1). كما أن الشرع الشريف ينظر إلى الإنسان نظرة تكريم وتشريف، مصداقًا لقوله سبحانه : ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: 70)، وما اختلاف البشرية فى ألوانها وأجناسها ولغاتها وعقائدها ودياناتها إلا آية من الآيات الباهرة الدالة على عظيم قدرة الخالق؛ بل تُمَثِّل هذه التعددية سببًا دافعًا للتعارف والتواصل لا للتصارع والتقاطع، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات: 13].
وهى قواعد ومبادئ انطلق منها المسلمون عبر التاريخ، فنجد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رسخ مفهوم المواطنة وأبعاده ومضامينه من خلال تصرفاته فى عصر الرسالة، والدليل على ذلك متحقق من أقرب طريق - فى بنود وثيقة المدينة المنورة؛ نذكر منها نماذج تدل على ما قررناه، ومنها: «وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم»، ففيه بيان لحقوق المواطنين وأنهم متساوون فى ذلك، و«أمة من دون الناس» و«إن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين»، وفيه إشارة إلى ضرورة وجود البناء السياسى الموحد للدولة الذى يضمن لرعاياها حقوقًا وواجبات متساوية، مع شمولهم بالحماية تحت مظلة الدولة، و«إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة»، وهو يدل على تحديد النطاق الجغرافى للدولة، وأن المواطن الواقع فى هذا النطاق المحدد محترم مصان؛ يحرم عليه التعرض بسوء على مَنْ فيه كما يحرم على مَنْ فيه التعرض له؛ عقيدةً وعقلًا ونفسًا وعِرضًا ومالًا، و«وإنه لا تجار قريش ولا مِنْ نصرها»، وفيه تقرير لقطع أى تعاون عسكرى أو مولاة مع أعداء الدولة وحلفائهم، و«وإن بينهم النصر على من دهم هاجم - يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يُصالحونه ويَلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين» وفيه دلالة على وجوب التكاتف من أجل الدفاع والذب عن حمى الدولة إذا تعرض له الأعداء بسوء، وفيه بيان لمسئولية المواطن الفردية تجاه قراراته وتصرفاته، وتقرير لحريته الكاملة بأنماطها المختلفة ما لم يتعد على الآخرين، «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»، وفيه ترك غير المسلمين وما يدينون، وعدم التعرض لهم بالحكم على صحة تصرفاتهم أو بطلانها بمعايير الإسلام، وإنما يتركون ومقتضيات عقائدهم، وقد جرى المسلمون عبر تاريخهم على ترسيخ هذه المبادئ السامية والمُثُل العليا، اللهم إلا بعض التصرفات الناتجة عن الهوى أو السياقات التاريخية الخاصة بزمانهم وأحوالهم.
وذلك يؤكد أن مبدأ المواطنة من منظور السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة يُعَدُّ رابطة ضرورية قائمة على الالتزام والمسئولية، لا على تبادل العاطفة والمشاعر المعنوية، ومن ثَمَّ فهو يحقق الاستقرار والتآلف بين أهل البلد الواحد مهما تعددت دياناتهم وانتماءاتهم العرقية؛ فوحدتهم عبارة عن توافقهم على التعايش والنهوض بالدولة وتقويتها وتوحيد صف شعبها وكلمتهم فى مواجهة أى خطر يهدد هُوِيِّة الدولة وسيادتها واستقرارها. ويضاف إلى ذلك تساوى جميع من انتسبوا إلى الدولة وحاملى جنسيتها فى حفظ ضرورياتهم ونيل احتياجاتهم ورفاهيتهم المعيشية على أساس من العدالة والحرية والعيش الكريم، فهم سواء فى حقوقهم وواجباتهم تجاه الوطن ومصالحه وقوانينه بلا تفرقة على أساس الانتماء الدينى أو العرقى ونحوه، أما ما يتعلق بالأديان وبالمؤسسات الدينية من قوانين تنظيمية فلكل طائفة عقائدها وشرائعها التى تتمسك بها دون منازعة من الدولة أو إجبار على مخالفة شيء منها. ولا يخفى أن هذه المعانى نلاحظها متجذرة فى وجدان وضمير الشخصية المصرية؛ فهى سمة خاصة بهذا الشعب الأصيل، حيث تترسخ عنده مفاهيم وأبعاد مبدأ المواطنة تنظيرًا وتطبيقًا فى القديم والحديث، ومن أبرز تجليات ذلك عدم وجود أى مظهر من مظاهر التباين الطائفي، كما أنه لا يقبل تأسيس أحزاب سياسية وجماعات دينية أو عِرقية على أسس طائفية، شأن بلاد عربية وإسلامية وغربية أخرى. والحاصل أن مبدأ «المواطنة» آخذ فى التطور والتشعب مع الاستقرار فى الفكر والممارسة، وهو ما يقضى بضرورة تتبع مسائله وتشعب جذوره لدراستها دراسة فاحصة كاشفة عن مستجداته فى مجالاته المتنوعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة