عادة تقاس قوة المجتمعات من خلال درجة تماسكها ( social cohesion)، من خلال وحدة وجودة النظام التعليمى ووجود نظام قيمى
عادة تقاس قوة المجتمعات من خلال درجة تماسكها ( social cohesion)، من خلال وحدة وجودة النظام التعليمى ووجود نظام قيمى ينتمى إليه معظم السكان. ويلاحظ إنه حدث تخلخل كبير فى بنية النظام التعليمى ومنظومة القيم فى المجتمع المصرى خلال الأربعين سنة الأخيرة. ولعل أبرز عناصر تفكك البنية التعليمية هو وجود مدارس حكومية لا تعلم شيئا ومدارس اللغات القاصرة على الأغنياء وأصحاب الدخول العالية. وعلى مستوى التعليم الجامعى لم تعد الجامعات المصرية العريقة (جامعة القاهرة، جامعة عين شمس، وجامعة الإسكندرية) هى المصدر الرئيسى للخريجين الجامعيين، بل أصبح بجانب الجامعة الأمريكية جامعات عديدة ملحقة بنظم التعليم الأجنبى كالجامعة الفرنسية والجامعة الألمانية والجامعة البريطانية بل هناك حديث عن الجامعة اليابانية أيضا. وهذا بدوره يؤثر على مخرجات التعليم العالى ووحدة التكوين العقلى والوجدان الثقافى. ناهيك عن الأعداد الغفيرة التى تتخرج من نظام التعليم الأزهرى بمراحله المختلفة انتهاء بكليات جامعة الأزهر. وهذا وضع ليس له مثيل فى العالم إذ يؤدى إلى ضياع الهوية وانعدام التجانس المجتمعى والثقافى للنخبة المتعلمة فى البلاد.
من ناحية أخرى أدت الهجرة الواسعة للمصريين إلى بلدان الخليج منذ نهاية السبعينيات إلى خلل فى منظومة القيم مما أدى إلى انقسام هائل بين عامة المصريين، بين ما هو إسلامى متشدد وبين ما هو علمانى ليبرالى، بينما كان الحال مختلفا فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى عندما كان يمكن أن نقول إن هناك تيارا رئيسيا ((mainstream يجعل هناك قواسم مشتركة بين كل المصريين بعيدا عن التطرف والانقسام الحاد فى المزاج السياسى والثقافى.
كذلك أدى النمو السكانى الكبير خلال الأربعين سنة الأخيرة إلى نشوء مناطق عشوائية كبيرة تضم كتلا سكانية ضخمة. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن نحو ٣٧٪ من الكتلة العمرانية فى مصر هى عبارة عن عشوائيات. وسكان العشوائيات يعيشون فى ظروف غير إنسانية تنتشر فيها البطالة والفقر، وتنمو لديهم ثقافات ليس لها علاقة بثقافة التيار العام فى المجتمع، وأخذ زحف المناطق العشوائية يمتد من القاهرة إلى الإسكندرية ومناطق حضرية أخرى. وهكذا أصبحت المناطق العشوائية مجتمعات منفصلة قائمة بذاتها من حيث نمط الحياة والسكن وأنماط الثقافة والأخلاق. وهذا يعمق بدوره درجة التفكك المجتمعى إذ لم تعد المناطق الحضرية ذات نسيج اجتماعى واحد بل أصبح هناك جزر منفصلة لا تتكلم لغة واحدة ولها ثقافات مختلفة.
من ناحية أخرى، تعمقت أزمة الطبقة الوسطى المدنية نتيجة تيارات الهجرة إلى الخليج التى شملت كل عناصر الطبقة الوسطى وخاصة الشرائح الدنيا والمتوسطة. وبدأت تلك الفئات تعانى من تدهور أسلوب الحياة من حيث نمط المعيشة وقصور الخدمة التعليمية والخدمة الصحية مما أضعف روح الانتماء الوطنى عندها، الأمر الذى جعلها تنصرف عن النشاط السياسى، وهى التى تعتبر الركيزة الأولى لعملية الانتقال الديمقراطى فى العديد من بلدان العالم. كما تم تكريس المسافات بين الشرائح العليا وبين الشرائح الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى. وبدا ذلك واضحا فى نمط إسكان جديد حيث تعيش الفئات الأعلى دخلا والأكثر ثراء فى أماكن سكنية مغلقة (Compounds) وينعكس هذا الفصل المكانى والطبقى بقوة على نوعية المدارس وأماكن الترفيه وأنماط التسوق.
خلاصة القول هنا أن العملية الجارية للتفكك المجتمعى يغذيها ثلاثة مصادر: التفكك الأسرى نتيجة الهجرة إلى الخليج وارتفاع معدلات الطلاق، تدهور دور المدرسة والمعلم فى التنشئة والتربية الوطنية، تدهور الحياة الثقافية عموما وانحدار مستوى الوسائط الإعلامية من صحف وتلفزيون وغيرها من الوسائط.
وفى ضوء كل ما تقدم يبدو أن المهمة التاريخية الراهنة هى إعادة بناء وتحديث مؤسسات ومرافق الدولة التى أصابها الترهل والشيخوخة وعدم الكفاءة على مدى الزمن. ومن ناحية أخرى يجب العمل على اعادة اللُحمة بين مكونات المجتمع المصرى ليتم تحقيق أكبر قدر من التماسك المجتمعى الذى يسمح بإطلاق القوى الحيَة فى المجتمع من خلال رفع المظالم وتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية فى الريف والمدينة. وهذا يستدعى بدوره توسيع حرية المجال العام وتقوية منظمات المجتمع المدنى من أحزاب ونقابات لوصل ما انقطع، وبذلك تتحقق «العروة الوثقى» التى تحدث عنها الأفغانى ومحمد عبده. وهنا يبرز الدور المحورى للشباب خاصة هؤلاء الشباب الثوار الذين تصدروا الصفوف الاولى لثورة ٢٥ يناير، فهم المخزون الاستراتيجى للأمل لمستقبل هذا البلد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة