أسئلة النقد والناقد في عمل جابر عصفور المرشح لجائزة زايد
«تحديات الناقد المعاصر» واحد من كتب ثلاثة ضمن القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد العالمية في النقد والفنون.. للناقد المصري جابر عصفور
في 350 صفحة من القطع الكبير، يأتي كتاب «تحديات الناقد المعاصر» (صادر عن دار التنوير بالقاهرة 2014)، للناقد والأكاديمي المعروف جابر عصفور، استكمالا لجهوده التنظيرية السابقة في مواكبة التيارات النقدية الحديثة، وعرض أفكارها الكبرى ضمن سياقات إنتاجها معرفيا وثقافيا.
في هذا الكتاب، الذي أهداه عصفور إلى روح الناقد والمنظر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، وعبر مفتتح وخمسة أبواب كبيرة، يستعرض عصفور أبرز الموضوعات والقضايا النقدية المعاصرة التي شغلت حيزًا كبيرًا من المجال الثقافي العام، والنشاط النقدي العربي بصفة خاصة خلال ربع القرن المنصرم.
«تحديات الناقد المعاصر» الذي أعلن عن ترشحه لجائزة الشيخ زايد العالمية، ضمن القائمة القصيرة في مجال الدراسات النقدية والفنون، هو الحلقة الأحدث، ضمن مشروع جابر عصفور النقدي التأصيلي، لدراسة إشكاليات النقد المعاصر، وتياراته ومذاهبه الكبرى في جوانبه التنظيرية، سبقته حلقات أخرى، ترجمة وتأليفا، كان من أبرزها؛ ترجمة، كتاب رامان سلدن «النظرية الأدبية المعاصرة» الذي ترجمه عصفور في تسعينيات القرن الماضي، «عصر البنيوية» لإديث كروزويل، «الماركسية والنقد الأدبي»، «اتجاهات النقد المعاصر»، و«الخيال الأسلوب الحداثة»..
أما تأليفا فكان من أهمها: «آفاق العصر 1997، «نظريات معاصرة» (مكتبة الأسرة 1998)، «الرهان على المستقبل» 2004، «قراءة النقد الأدبي» 2002، «النقد الأدبي والهوية الثقافية» 2009، وغيرها.
جابر عصفور من النقاد الذين بذلوا مجهودا وافرا وحقيقيا في التنظير النقدي، وعلى مدى مشواره العامر سعى بدأب كبير وولع غير مسبوق في متابعة التيارات والمذاهب النقدية الحديثة في تجلياتها المختلفة التي راوحت بين نظريات الكلاسيكية والتعبير الرومانسية والواقعية الاشتراكية مرورا إلى النقد الجديد والشكلية الروسية، ثم البنيوية اللغوية والبنيوية التوليدية، فنقد ما بعد الحداثة وصولا إلى النقد الثقافي الذي يبدي جابر عصفور له حماسا كبيرا، بحسب كتاباته في السنوات الأخيرة.
لن تجد نظرية أو تيارا نقديا مهما لم يكتب عنه جابر عصفور، أو يتعرض له بالتحليل والقراءة، صحيح أن ذلك كان يتم عبر مقالات متفرقة كانت تجمع على عجل وتنشر بين دفتي كتب كثيرة (كانت في حاجة لمراجعة متأنية وإعادة ترتيب وتصنيف لتخرج بشكل أكثر اتساقا وتماسكا وارتباطا عضويا)، لكنها في المجمل تقدم لطلاب النقد الأدبي والمهتمين به زادا وفيرا وضروريا، لا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه.
في هذا الكتاب، وعبر مقدمته التأصيلية المفصلة، يستعرض عصفور تعدد المفاهيم والمداخل المتنوعة لمعالجة النص الأدبي، والنظر إلى ماهيته ووظيفته، منطلقا من تصورات أصحاب مدرسة النقد الجديد (ت. س. إليوت/ إيفور إيفانز/ إي. آي. ريتشاردز/ كلينيث بروكس.. وآخرين)، والشكلية الروسية (رومان ياكبسون/ فيكتور شكلوفسكي/ يوري لوتمان/ وبوريس أيخنباوم.. وغيرهم)، مرورًا بأصحاب المنهج الاجتماعي والبحث عن رؤية العالم في النص (جورج لوكاتش)، متطرقا إلى مناهج البنيوية التوليدية (لوسيان جولدمان)، والماركسية التقليدية والماركسية الجديدة، وصولا إلى نظريات الحداثة وما بعدها، البنيوية والتفكيك والسيميوطيقا والهرمنيوطيقا ونظريات القراءة والتلقي.. إلخ.
والحق أن كل ما أورده عصفور في هذه المقدمة النظرية الكاشفة هو محاولة لتعديد مفاهيم النص المتغاير بتغاير المداخل التي نلج منها إليه، أو تعدد العدسات التي نتطلع من خلالها إلى النص. وهو ما قاده في النهاية إلى تحدي المناهج التي تتخذ شكل السؤال: ما المنهج الذي يختاره الناقد ويرتاح إليه، ويرى فيه خير طريق يقوده إلى روح النص الأدبي والكشف عن أسراره أو كنوزه التي تظل دائمًا في حاجة إلى الكشف؟
يقول جابر عصفور إن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، وهي تعتمد على درجة ثقافة الناقد ونوعها والمدى الذي يمكن أن تتيح له منظورًا أكثر شمولاً ووضوحًا وعمقًا في آن، مضيفا إلى ذلك، استقلال فكر الناقد على وجه الخصوص وقدرته على وضع كل المناهج بمداخلها المختلفة موضع المساءلة التي تقرن بين النظري والتطبيقي من إنجازات كل منهج.
ولا ينفصل عن ذلك الوعي بأن قيمة النظرية النقدية، أو منهجها، لا تعتمد على الإغواء البراق بوعود كثيرة قد لا تتحقق في فعل التطبيق، فالأهم من ذلك هو الرؤية النقدية، رؤية المساءلة للمنهج بما لا يفصل بين تنظيراته وتطبيقاته، فإذا وجد الناقد "الشاب" ما يجيب عن أكثر أسئلته الحاضرة، وما يمكن أن يجيب عن أسئلة محتملة خلال الممارسة النقدية، فإن هذا المنهج يغدو بالتأكيد أفضل من غيره، وأولى بأن يختاره هذا الناقد الشاب.
دائما ما يشدد عصفور على فعل المساءلة وضرورتها، في كل ما كتب، وهنا بالأخص مشيرا إلى أن هدفه من ذلك التشديد هو "تجنيب الناقد المبتدئ غواية التقليد أو الموضة، فمن الخطر كل الخطر أن يندفع هذا الناقد إلى الاختيار نتيجة رغبته العفوية في تقليد أساتذته أو النقاد الكبار في عصره، أو يسير في الاختيار وبوصلته هي ما يسود أو يشيع، فإن هذا الناقد، أو من فعل ذلك، لن يحقق إنتاجًا نقديًّا مؤثرًا أبدًا، وأيًّا كان حظه من النجاح فإن هذا الحظ لن يعدو أن يكون صوته النقدي صدى لغيره، لا جدة ولا نضارة فيه".
الممارسة النقدية، كما يفهمها ويلح عليها عصفور، هي حالة إعادة صنع لا يتوقف لمبادئ المنهج، ويرى أنه لا بأس على الناقد المبتدئ أن يختار ما شاء من مناهج، ويوظف المنهج الذي اختاره على نصوص، لكن على نحو مرن، يعيد فيه الناقد إنتاج المنهج في كل مرة من مرات الممارسة، فهو لا يأخذ قواعد صماء يطبقها كما هي كل مرة، فكل مرة تختلف عن غيرها في نوعية الأعمال الأدبية التي لكل واحد منها خصوصيته التي تجعل منه أشبه بالبصمة غير القابلة للتكرار، إن الناقد المثالي هو الذي يجعل لمنهجه الواحد مجاله الخاص في كل مرة يمارس فيها عملية النقد التطبيقي.
ويشبه عصفور عمل الناقد هنا برسام البورتريه الذي لن تجد بين الأوجه التي يرسمها تطابقًا، ولن تجد في كل بورتريه تطابقا بينه وبين الأصل الذي يصوره، ومع ذلك فإنك عندما تتأمل العديد من البورتريهات التي رسمها هذا الرسام ستجد ما يربط بينها، أعني الأسلوب الخاص الذي تتكرر لوازمه على نحو متباين في كل مرة، وهذه هي نقطة الأصالة في النقد التي نجدها في ممارسات كبار النقاد في العالم.
ولذلك ذهب واحد من منظري النقد الكبار إلى تأكيد أنك لن تجد قواعد الرومانسية ومبادئها الحرفية عند شاعر مثل "كولردج"، ولا الحداثة عند "رامبو"، فكل مبدع أصيل هو أعلى من المذهب الذي ينتسب إليه وأسهم في إشاعته. ولن تجد التطابق بين مبادئ المذهب النقدي أو المنهج إلا عند نقاد الدرجة الثانية أو الثالثة، فالناقد الكبير كالفنان الأصيل يتأبى على قيود سجن النسق المذهبي ويتمرد على القواعد التي يحفظها نقاد الدرجة الثانية أو ما دونها عن ظهر قلب.
«تحديات الناقد المعاصر».. كتاب مهم يطرح الأسئلة بقدر ما يواجه الإشكاليات بجسارة وصراحة وإقرار بواقع الأزمة.. أزمة النقد والنقاد المعاصرين.