الأم السورية في عيدها.. أبناء قتلى وآلام حبلى وآمال منتظرة
عيد الأم لم يكن كالعادة مناسبة سعيدة بالنسبة لآلاف السوريات اللاتي يعشن ظروف حرب قاسية، أضنت أجسادهن وفرقت عوائلهن
"عيد الأم" الذي يُحتفل به في 21 مارس/آذار من كل عام، لم يكن كالعادة مناسبة سعيدة بالنسبة لآلاف السوريات اللاتي يعشن ظروف حرب قاسية، أضنت أجسادهن وفرقت عوائلهن وجعلت في كلمات أمومة وبنوة حرقة لقلوب من تسببت لهم الحرب بفقدان لذتها ومعناها، إلا أن الأمل لا يزال يحدوهن في لم شمل من فرقتهم الحرب.
"أم همام"، سيدة دمشقية تصف هذه المناسبة التي تمر عليها وكأنها "كابوس"، بعد أن فقدت أبناءها الثلاث في التفجير الانتحاري المعروف باسم "تفجير الحياة"، الذي استهدف إحدى المناطق المكتظة بالسكان في مدينة دمشق، وأسفر عن مقتل ما يقارب ستين شخصاً وجرح أكثر من 230 آخرين.
لم تصدق "أم همام" أن هذا التفجير الغادر، قد أودى بحياة أبنائها الثلاث سويا، واكتفت حينها بالرد على هذا الخبر الأليم بقول "حسبي الله ونعم الوكيل.. حسبي الله ونعم الوكيل".
وحتى الآن لم تدرك أم همام ما الذي حصل في ذلك اليوم المشؤوم من العام ألفين وثلاثة عشر، وتقول على لسان زوجة أحد أبنائها المتوفين التي روت القصة لبوابة العين الإخبارية: "أنا على يقين أنه سيأتي يوم ويظهر أحدهم على الأقل، فمن غير المعقول أن يختفي ثلاثتهم دون أي أثر لجثثهم".
وتتابع زوجة الشهيد الأكبر رواية القصة الأليمة، وتقول: "حادثة تصفها والدة زوجي الراحل بالكابوس، لكنها بالنسبة لي كانت الفاجعة، وبالتأكيد كانت أشد وقعا على الحاجة أم همام لأن فقدها ومصابها أكبر بكثير، لكنها امرأة ذات إيمان عال جدا، وكل فترة وأخرى تسلم لحقيقة فقدها لأبنائها إلى الأبد".
وعلى الرغم من مصيبة زوجة الابن إلا أنها تفضل أن تلغى مناسبة عيد الأم خوفا على مشاعر "حماتها"، التي ستهتز حتما كما العامين السابقين، فهذه المناسبة بحسب وصفها "أضحت ذكرى مؤلمة على عكس ما تحمله من معنى سعيد".
أم همام ليست الأم الوحيدة التي تعاني ألم فقد أبنائها في هذا اليوم، فالسيدة شادية أبو الحسن والتي تم سحب ابنها لينضم إلى صفوف الجيش المقاتل في مدينة دير الزور الواقعة في الشمال السوري، تأبى أن تحتفل مع بقية أبنائها بهذه المناسبة طالما ابنها الأصغر يعيش في خطر قد يودي بحياته في أي لحظة ويحول اسمها من أم محمد إلى أم الشهيد.
وتعيش شادية مأساة تلاحقها يوميا مع كل هجوم يتعرض له عناصر الجيش السوري المتمركزين في دير الزور، من قبل جماعة "داعش" الإرهابية التي تفرض سيطرتها على المدينة هناك.
ومنذ سحب ابنها إلى جبهات القتال، تحاول أم محمد يوميا أن تتواصل مع سماسرة أو مهربين لكي تتمكن من تهريب ابنها أو نقل مكان خدمته العسكرية إلى مكان أكثر أمانا أو على الأقل بعيدا عن شبح "داعش".
وبصوت عالٍ ونبرة قوية تقول أم محمد: "لا عيد لي بلا ابني الأصغر.. ولا راحة لي إلا برؤيته سليما معافى.. ولا لإنفاق مادي إلا لتدبير أمور تهريب ابني الذي كان يعمل في مهنة الحلاقة ونذر حياته كي أحيا أنا وأخوه المريض بكرامة وراحة مادية بعد وفاة والده قبل 7 سنوات".
وتقسم شادية، في حديثها لبوابة العين، على أنها ستبذل أقصى ما تستطيع كي تعيد ابنها إليها، الذي رفض أن يغادر البلاد هربا مما قد تحيقه الحرب به من مخاطر، كما فعل مئات الشباب في سنه، والسبب أنه كان العائل الوحيد لوالدته.
ما تعانيه الأمهات السوريات في هذه المناسبة، ربما تتشاطر مسبباته غالبية النساء هناك، لكن اختلافا في قصة السيدة دانية الإخوان، يلفت النظر إلى فصل جديد من فصول المعاناة كان بعيدا عن الأذهان نوعا ما، في زحمة قصص الموت والهجرة والاختفاء والاعتقال.
دانية صاحبة الـ ثلاثة وعشرين عاما، والتي تعيش في مدينة حمص المحاصرة، والتي شهدت فصول الحرب كاملة حتى اللحظة، أتت إلى الدنيا بمولود بلا أطراف، والسبب كان بحسب الأطباء "الخوف والهلع".
خوف دانية الحمصية كان مبررا، بحكم عيشها في مكان يشهد عمليات قتل وتفجير وقصف بشكل يومي، لكن أحد من عائلاتها لم يتخيل أن امرأة سليمة 100% وكانت قد أنجبت قبل ذلك طفلين اثنين، بصحة تامة، أن تنجب طفلا مشوها بلا أطراف.
وروت السيدة الصغيرة قصتها لبوابة العين، وهي تغالب دموعها، مستعيدةً لحظات ستبقى طويلا بذاكرتها: "أثناء حملي لم أكن أتردد إلى الطبيب لمتابعة الحمل، فهي ليست المرة الأولى التي أنجب فيها طفلا، ناهيك عن انخفاض عدد الأطباء المتخصصين بشكل كبير في منطقتنا وصعوبة الوصول إلى مناطق المشافي المتخصصة بين الحين والآخر".
ووصفت دانية تلقيها للخبر: "عندما أنجبت طفلي، وعلمت أنه ليس بخلقة تامة، كنت عاجزة عن استيعاب الصدمة، ورفضت أن أراه أو أن أرضعه لفترة تعدت ثلاثة الأيام، لكن قدر الله قد وقع وليس لطفلي ذنب كي أقسو عليه أكثر مما قست عليه الحياة وستفعل".
لكن المشهد الأكثر إيلاما كان بالنسبة للسيدة الحمصية، هو مشاهدة المرأة التي تشاركها غرفة المستشفى، وهي تحمل طفلها سليما معافى، ويجتمع حولها المباركون والمهنئون بقدوم المولود الجديد، والابتسامات والضحكات تعتلي وجوههم وتعبر عن مدى سعادتهم برؤية فلذات أكبادهم الجدد.
هذه الأم الصغيرة، لم يعد يهمها مناسبات أو أعياد، وأصبح جل اهتمامها ينصب "على تربية طفلي المظلوم، الذي لا يقوى على فعل شيء دون مساعدتي، وعيدي الحقيقي سيكون عندما يبدله الله أطرافا خيرا من أطرافه في الجنة".