ملتقى أبوظبي الاستراتيجي قد يكون من أهم المؤتمرات.
تزامن انعقاد «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي»، الذي يعقده كل سنة «مركز الإمارات للسياسات»، وتقف وراءه سيدة - جنرال هي الدكتورة ابتسام الكتبي؛ التي بجهودها تجمع سنوياً نحو 500 باحث وأكاديمي وسياسي ومفكر، وتترك بصمتها على كل ما يحتويه ويناقشه، تزامن مع افتتاح متحف «اللوفر أبوظبي» الذي فاقت هندسته الرائعة «اللوفر» الباريسي.
كأنَّ الحدثين جاءا نتيجة للإحساس الجديد الذي يشعر به الإماراتيون. هناك إحساس واضح بالثقة وعدم انتظار ما ستقرّره هذه الإدارة الأميركية أو ذلك الموقف الروسي، أو تلك المصالح الصينية أو البحث عن الصفقات من الطرف الأوروبي.
برزت دول الخليج في الملتقى أكثر ثقةً بمقدراتها لمواجهة إيران وكل الأخطار، ولم تعد تراهن على حليف استراتيجي واحد، فلديها حلفاء متنوعون يقصدون ودَّها. كذلك عادت الثقة بالحضارة العربية والإسلام العربي. والإمارات بدأت مرحلة خوض المعرفة بدل استهلاكها فقط.
الدكتور عبد الخالق عبد الله الباحث في شؤون الخليج، لمّح إلى أن إمكانية الحرب في المنطقة قد تزيد مع العام المقبل من نسبة 20 في المائة إلى 40 في المائة، وكان الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، قد قال في كلمته المسهبة إن «السذاجة» التي سادت في بعض الأوساط عن أن الدور الإيراني سيتغيّر بعد التوقيع على الاتفاق النووي قد تراجعت، وإن الصاروخ الإيراني الذي أطلقه الحوثيون كشف كذب الادعاءات الإيرانية «حول الطبيعة الدفاعية لبرنامج إيران الصاروخي».
لم يكن المشاركون والمتحدثون كلهم من نفس الخط، وهنا تكمن أهمية النقاشات التي دارت، إذ دعا الدكتور محسن ميلاني، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية في جامعة «ساوث فلوريدا»، والخبير في السياسة الخارجية الإيرانية، إلى «ضرورة الحوار والمصالحة ما بين إيران والسعودية»، إذ قال إن إيران قادرة على توتير الآخرين، ومنع الدول من تحقيق أهدافها. الدكتور ميلاني كان يحمل رسالة إيرانية واضحة إلى المؤتمر، فيها كشف نقاط ضعف إيران، وفي الوقت نفسه لوّح بما تلوّح به من تحديات.
الدكتور قرقاش كان أكثر وضوحاً وحسماً، دعا العراق إلى تأكيد دوره «التاريخي في احتواء طموحات إيران للهيمنة، وإلى تعزيز بغداد هويتها العربية» وقال: «على ضوء سلوك طهران الراهن (هذا الكلام قبل جولة قاسم سليماني في البوكمال) فإننا - في بساطة - لسنا في موقع يمكّننا من الحديث حول تخفيف حدة التصعيد أو الدخول في حوار مع إيران».
ولأن لا خليج مستقراً، ولا ازدهار في الدول العربية والإسلامية من دون المملكة العربية السعودية، توقف قرقاش عند ما تشهده السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وهو ظهور دولة مستعدة للتعامل مع تحديات المستقبل. قال قرقاش: «تعتمد وجهة نظر دولة الإمارات في نجاح استراتيجيتها، على وجود دولة سعودية نامية وقوية، ودولة مصرية مستقرة وقوية». وفي حديثه عن سوريا التي تمنّى لها حلاً سياسياً ناجحاً تبيّن أن لا رغبة خليجية حتى الآن في المشاركة في إعادة البناء، ما دام هناك بشار الأسد رئيساً، وإيران وروسيا وصيفين عسكريين، و«حزب الله» و«الفاطميون» و«الزينبيون» أدوات تحريك وتدمير.
المشاركون كانت تظللهم مظلة الأبحاث الصريحة. أليكس ناتافنكا من معهد الشرق الأدنى في واشنطن، أكد أن لا أمل يُرتجى من حسن روحاني الرئيس الإيراني، لأن أنظاره شاخصة على خلافة آية الله علي خامنئي، لذلك فإن «الحرس الثوري» باقٍ وهو يقود العجلة.
وفي جلسة القوة الناعمة في السياسة الدولية التي أدارها تركي الدخيل، مدير عام «قناة العربية» الإخبارية، وشاركت بها نورة الكعبي، وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة الإماراتية، والدكتورة ابتسام الكعبي التي كشفت عن التركيز في الإمارات على الاستثمار في القوة العسكرية والأمنية، والاستمرار في السياسة الخارجية، و«دعم هذه الأمور الضرورية يفوق دعم الثقافة».
كان هناك قلق على دور مجلس التعاون الخليجي، وبمعنى ما، أشار السفير عبد الله بشارة إلى دور المجلس في ظل الظرف الذي يمر به والأزمة القائمة مع قطر. في هذا الخضم هناك من رأى تقصيراً من دول الخليج في استحداث جيش لا يقل عدده عن 400 ألف جندي، وتساءل كثيرون: أين أصبح «درع الجزيرة»؟ هناك من دافع لأن مجلس التعاون الخليجي عندما أُنشِئ لم يكن كياناً أمنياً أو عسكرياً، لكن بعد سنوات، وحسب ما ذكره بشارة، طلب من السلطان قابوس، سلطان عُمان، وضع دراسة لتشكيل قوة خليجية.
الكويتي الدكتور عايد المناع، الأكاديمي والسياسي، تساءل عما إذا كانت دول الخليج دخلت في سياسة المحاور، وتساءل أيضا عن ردود الفعل الخليجية تجاه الميليشيات المماثلة لـ«حزب الله» في لبنان التي تنشئها إيران في العراق، وهي كثيرة وخطيرة؟، لكن تبين لي أن الأخطر في مسألة قطر هو دعمها وتبنيها لـ«الإخوان» المسلمين.
وعندما جاء الحديث عن ليبيا، أعطى الدكتور محمود جبريل، رئيس الوزراء الليبي السابق ورئيس تحالف القوى الوطنية، صورة نصف قاتمة ونصف أقل سواداً، إذ فاجأنا بأن هناك 1600 ميليشيا، و300 مليون قطعة سلاح بين أيدي الميليشيات، وأن 72 مليار دولار تم إهدارها من دون وجود مشروع إنقاذي، يحكي عن لقاء أجراه اللبناني غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، مع طلاب جامعة بنغازي، سأل الطلاب سلامة: ما العمل لوقف الفساد في ليبيا؟ فكان الجواب: «يمكن الحديث عن الفساد في إيطاليا، في فرنسا، أو حتى في أميركا، أما هنا في ليبيا فهناك نهب».
ووصلنا إلى اليمن مع خالد بحاح، نائب الرئيس ورئيس الوزراء السابق في اليمن، الذي اختصر المشكلة بعبارة: «الحوثيون يؤمنون بالحق الإلهي، وجماعة علي صالح بالحق التاريخي». وقال: «يجب إعادة هندسة الحكومة كي لا تبقى رديفاً للانقلابيين... وإن التفاوض على السلام يجب ألا يتوقف، وبالتالي يجب إبقاء غرفة سلام مفتوحة وفعالة دائماً».
أما يوسف الحسن، الدبلوماسي الإماراتي السابق، فقد تحدث عن قطر، وقال إن استمرار الأزمة عائد إلى حالة الإنكار التي تعتمدها قطر، واقترح 3 سيناريوهات لحلحلة الأزمة: تغيير النظام بطريقة سلمية بما فيه احتمالات قيام حكومة منفى، أو ابتعاد الأمير الوالد عن المسرح السياسي القطري، أو تغيير الأمير الحالي بطريقة سلمية.
ثم دار نقاش حول تجميد أو طرد أو انسحاب قطر من عضوية مجلس التعاون الخليجي، لكن لا يوجد نص في النظام الأساسي للطرد أو للتجميد، فهل تنسحب قطر من تلقاء ذاتها؟ الاستنتاج: تجربة قطر استثناء، والكل أجمع على أن الأزمة قد تطول لسنتين على الأقل.
من جانبه دعا إد روجرز الخبير في الحملات الأميركية السياسية، الخليجيين إلى عدم تجاوز الديمقراطيين، ورأى أن أهمية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن لديه أفضل العلاقات مع أميركا منذ بندر بن سلطان، ويجب الاستفادة منها.
سيرغي كاراغانوف، من الكلية العليا للاقتصاد في روسيا، قال: «كانت سوريا مسرحاً لتمارين قوية أهمها الطيران والصواريخ، ثم إن لدينا علاقات ممتازة مع إسرائيل والسعودية ومصر»، أما الصيني في معهد الدراسات الدولية الاستراتيجية في جامعة بكين الدكتور وو بنغ بنغ، فقال: «من أجل حل مشكلة كوريا الشمالية نريد تجميداً للتمارين العسكرية في كوريا الجنوبية».
ورأى الياباني من جامعة «سيكي» في طوكيو الدكتور كي هاكانا أن «الصين تشكل خطراً دائماً على أمن اليابان». أما الدكتورة مينا روي، من مركز الدراسات والتحليلات الدفاعية في دلهي، فقالت: «نريد أن نستوعب الصين لا أن نصارعها»، كل دول العالم ومشكلاتها اجتمعت في جلسات دامت يومين.
وبرزت دول الخليج في الملتقى أكثر ثقةً بمقدراتها لمواجهة إيران وكل الأخطار، ولم تعد تراهن على حليف استراتيجي واحد، فلديها حلفاء متنوعون يقصدون ودَّها، كذلك عادت الثقة بالحضارة العربية والإسلام العربي. الإمارات بدأت مرحلة خوض المعرفة بدل استهلاكها فقط. وقالت ابتسام الكتبي، إن لقبها «جنرال»، وهي تستحق ذلك.
ملتقى أبوظبي الاستراتيجي قد يكون من أهم المؤتمرات الاستراتيجية، سقط قناع الخوف والتردد، وبرزت إرادة القوة والمعرفة والصراحة، إنما يبقى الخطر جاسماً.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة