لا مجال ولا إمكانية هنا لغير البحث الموضوعي، ولا مجاملة على حساب الحقائق
عند الحديث عن ملتقى أبوظبي الاستراتيجي السادس، الذي نظمه مركز الإمارات للسياسات، بالتعاون مع وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية، ثمة معطيان مهمان يستوجبان التوقف عندهما، وهما أن هذا الملتقى لا يزيد عمره على ست سنوات، وأنه قد حاز العام الماضي على المركز العاشر عالميا والأول عربيا في قائمة أفضل المؤتمرات السياسية حول العالم. ووصفه وزير الإعلام أنور قرقاش، أنه من أهم منصات الحوار البناء حول القضايا الإقليمية والدولية في الخليج العربي.
وعلى مدار يومين، كانت أبوظبي عاصمة الفكرية للعالم، حيث احتضنت نخبة من صناع القرار والسياسيين وخبراء عالميين في تحليل السياسات، وابتعدت المحاور عن الكلاسيكي والمطروق والعمومي، وتوجهت لبحث المستقبلات والبدائل الممكنة والخيارات المتاحة، بالإضافة إلى طرح سيناريوهات محتملة لكل قضية، أما بنود المحاور فقد تناولت ما يشغل فكر العالم، في هذه المرحلة، والإجابة عن سؤال «إلى أين يسير النظام الدولي؟»، وهو ما أوضحته رئيسة الملتقى، ومركز الإمارات لصنع السياسات، الدكتورة ابتسام الكتبي، عبر توفير "تحليل علمي لآليات عمل النظام الدولي، وتفسيرِ الكيفية التي يُمارِسُ بها هذا النظام تأثيرَه في اللاعبين، وتحديدِ مواقعهم وأدوارهم في النظام، والتنبؤِ بتحولات النظام وسلوك اللاعبين، ونَتاجات اللعبتين الدولية والإقليمية".
لا مجال ولا إمكانية هنا لغير البحث الموضوعي، ولا مجاملة على حساب الحقائق، ولا وجود لانحيازات مسبقة ضد أو مع أفكار معينة، لذا لم تكن الآراء ذات توجه واحد، بل كانت ثرية ومتعددة، وذلك يعكس إدراك إدارة الملتقى بأن مخرجات الملتقى تشكل رافداً مهماً في صنع السياسة
وتعتقد إدارة الملتقى أننا نعيش لحظة تاريخية تغلي بالتطورات، وأن استجابتنا لهذا الواقع لا بد أن تتناسق مع تطوراته وتغيراته السريعة، لذا فإن مهمة البحوث والدراسات لا تكتفي بقراءة هذا الواقع وتوصيفه، على أهمية هذا الأمر، بل يجب أن تكون خرائط طريق تصنع مسارات آمنة لمستقبل الإمارات والمنطقة. وبنفس القدر، فإن الباحث أو فريق العمل صانع هذه النتاجات، يجب أن يكون على سوية عالية من الإدراك والجرأة لإنجاز هذه المهمة.
لم تختلف أولويات ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي السادس عن ملتقيات السنوات السابقة، من حيث التركيز على مناقشة القضايا الحيوية والأكثر إلحاحاً، لاستكشاف خرائط ومفاتيح المشهد الدولي المستقبلي، وهي منهجية يتبعها مركز الإمارات لصنع السياسات المشرفة على الملتقى، بهدف بلورة فهْم لواقع النظامَين الإقليمي والدولي وتحولات القوة فيهما انطلاقا من إدراك إدارة الملتقى لأهمية طرح الأفكار البناءة، نظراً للحاجة الملحة لها في سياق التطورات الراهنة التي يتخلّق فيها نظام إقليمي جديد، تسعى دولة الإمارات لأن تكون طرفاً شريكاً في صناعته.
لذلك، ورغم إيلاء الملتقى الأهمية للقضايا والأسئلة الكونية الكبرى التي تشغل التفكير السياسي الكوني في هذه المرحلة، إلا أنه أعطي أهمية خاصة للمتغيرات الإقليمية التي تمس الأمنين الخليجي والعربي، فكانت قضايا وأزمات فلسطين وليبيا واليمن وسورية، حاضرة بقوّة في قلب النقاشات، كما الأمر بالنسبة للتحديات الجيوسياسية النابعة من القوى الإقليمية غير العربية، وتحديدا إيران وتركيا وإسرائيل، باعتبارها فواعل مؤثرة في الواقع العربي بقوّة عبر انخراطها وتدخلها في أزماته ومشاكله.
لا مجال ولا إمكانية هنا لغير البحث الموضوعي، ولا مجاملة على حساب الحقائق، ولا وجود لانحيازات مسبقة ضد أو مع أفكار معينة، لذا لم تكن الآراء ذات توجه واحد، بل كانت ثرية ومتعددة، وذلك يعكس إدراك إدارة الملتقى بأن مخرجات الملتقى تشكل رافداً مهماً في صنع السياسة التي لا بد أن تكون مبنية على حقائق موضوعية ورؤى سليمة، فالأفكار، وفق رؤية إدارة الملتقى، موارد مهمة من ضمن عناصر ثروة الإمارات، والأفكار الجيدة مؤشر قوي على مدى سلامة مسارات الإمارات المستقبلية، ما دمنا نعيش في عالم لا يعتمد على الصدف في نقلاته وتحولاته، بقدر ما يرتكز على التخطيط العلمي الممنهج والواعي لمعطيات الواقع وسيناريوهات المستقبل.
ليست ضربة حظ ولا مصادفة بأن يجري تصنيف ملتقى أبوظبي الاستراتيجي كواحد من أهم المؤتمرات الاستراتيجية، بل ذلك ترجمة أمينة لنهج المؤتمر القائم على نبذ الخوف والتردد وسيطرة إرادة القوّة والمعرفة والصراحة، إن كان على مستوى معالجة الأفكار والرؤى، أو على مستوى القضايا المطروحة للنقاش، والتي تناولت في هذه الدورة قضايا عالمية حيوية تحت عنوان "خريطة القدرات العالمية" على الأصعدة العسكرية، والجيو- مالية، والجيو- تقنية والذكاء الاصطناعي وتوزع القدرات السيبرانية، وخريطة الطاقة في العالم واللعبة الدولية والإقليمية، والسياسات الإماراتية في العصر الحديث: قدرات الذكاء الاصطناعي وصناعة الفضاء. وعلى المستوى الإقليمي وتحت عنوان "الشرق الأوسط: لعبة جديدة- القوّة والتنافس على القوى: ما اللعبة؟ ومن اللاعبون؟ ناقش الملتقى الأزمات العربية محاولاً استشراف مآلات الواقع العربي وأدوار اللاعبين الإقليميين.
الملفت للنظر في فعاليات ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي، ذلك الحضور الكثيف لنخب صناع السياسة في العالم، الذين يحرصون على حضور دوراته السنوية والمشاركة بنقاشاته وحواراته، والإدلاء بمقترحاتهم وتصوراتهم، والتنافس فيما بينهم لطرح الأفكار الجديدة والحيوية، فهل غريب أن تكون أبو ظبي خلال فترة انعقاد مؤتمرها عاصمة التفكير العالمي؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة