"التفضيل الجمالي".. في سيكولوجية التذوق الفني
"التفضيل الجمالي" كتاب يبحث في الجهود السيكولوجية المختلفة التي حاولت وصف الجمال أو حاولت فهمه وتفسيره أو الاقتراب منه بطرائق متنوعة
ظهر علم الجمال أو «الإستاطيقا» كمصطح لأول مرة خلال القرن الثامن عشر من خلال الفيلسوف بومجارتن، وأصبح هدف هذا العلم محاولة وصف، وفهم، وتفسير الظواهر الجمالية والخبرة الجمالية. إنه ذلك الفرع الذي نشأ أصلاً في أحضان الفلسفة، وترعرع وبلغ أشده في ظلالها، ثم جاءت فروع معرفية أخرى بعد ذلك، كي تنعم بهذه الظلال، وتساهم في سقاية هذه الشجرة الوارفة المتألقة لعلم الجمال، وأن تضيف إليها فروعاً جديدة.
لم يكن نمو هذه الشجرة طبيعياً، ولا يسيراً في حقب عدة عبر التاريخ. فكثيراً ما كانت تتداخل عوامل اجتماعية، وثقافية، وسياسة جامدة كي تعيق هذا النمو، أو تمنعه. وكثيراً ما حاولت هذه العوامل أيضاً أن تجتث هذه الشجرة من جذورها، لكن هذه الشجرة كانت تعاود النمو بعد ذلك بأشكال عدة، ربما بقوة أكبر، وبازدهار أكثر
تألقاً، حتى لو طالت فترة كمونها أو خفائها، وذلك لأنها أحد أبرز التجليات المعبرة عن خصوصية النوع الإنساني وتميزه عن غيره من الكائنات.
في كتابه الموسوعي المرجعي "التفضيل الجمالي: دراسة في سيكولوجية التذوق الفني"، يحاول أستاذ علم نفس الإبداع الدكتور شاكر عبد الحميد، وزير الثقافة المصري الأسبق، الإلمام بالجهود السيكولوجية المختلفة التي حاولت وصف الجمال أو حاولت فهمه وتفسيره أو الاقتراب منه بطرائق متنوعة. الكتاب صدرت منه طبعة جديدة في سلسلة (الإصدارات الخاصة)، الكتاب رقم 152، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
يوضح المؤلف في تقديمه للكتاب، أن علم النفس، منذ بداياته، يجد ملاذاً آمناً وممتعاً له في ظلال "علم الجمال". والعديد من الأفكار التي تناولها الباحثون في علم النفس منذ ظهوره بشكل علمي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى الآن، له جذوره الضاربة بقوة وصلابة في أعماق التربة الفلسفية.
يعتبر الكتاب، بحسب عبد الحميد، محاولة متواضعة للإلمام بالجهود السيكولوجية المختلفة التي حاولت وصف الجمال أو حاولت فهمه وتفسيره أو الاقتراب منه بطرائق متنوعة وخاصة في بعض تجلياته الفنية والبيئية.
عادت أفكار النسبة، والتناسب، والتوازن، والاعتدال إلى الظهور مرة أخرى خلال عصر النهضة الأوروبية، ثم كانت الرومانتيكية بعد ذلك بمنزلة رد الفعل الحساس المضاد تجاه هذا الاعتماد الصارم على العقل، ومن ثم انطلقت قوى الخيال والعاطفة من قيودها. ونظر كانط (خلال القرن الثامن عشر) إلى النشاط الجمالي باعتباره نوعاً من اللعب الحر للخيال العبقري، وأكد تجرد الحكم الجمالي من الهوى النفعي، وتحرره كذلك من التفكير المنطقي، وكتابه "نقد الحكم الخالص" يعتبره البعض أكثر الأعمال الفلسفية أهمية في النظرية الجمالية في الغرب وأشدها تأثيراً فيها. وأرجع "هيجل" الجمال إلى اتحاد "الفكرة" بمظهرها الحسي. ونظر "شوبنهور" إليه على أنه محرر للعقل، "فهو يسمو بنا إلى لحظة تعلو على قيود الرغبة، وتتجاوز حدود الإشباع".
وهكذا توالت الإسهامات الفلسفية المهمة التي يستعرضها الفصل الثاني من هذا الكتاب تفصيلاً. والهدف الأساسي من الجهد المقدم هنا، يقول شاكر عبد الحميد، هو تزويد القارئ العربي -ربما لأول مرة- بأهم الجهود السيكولوجية التي حاولت دراسة الخبرة الجمالية عامة، وموضوع التفضيل الجمالي في الفنون خاصة.
ومن أجل ذلك، فقد استعرض المفاهيم الفلسفية والسيكولوجية العديدة المرتبطة بعمليات التفضيل الجمالي، والتذوق للفنون والجماليات بشكل عام، كما عرضنا باختصار لأبرز النظريات الفلسفية التي حاولت تفسير الخبرة الجمالية والظواهر الجمالية. ثم قدم أهم الجهود السيكولوجية التي حاولت دراسة هذه الخبرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: نظرية التحليل النفسي (خاصة لدى فرويد وكريس وكلاين وغيرهم)، ونظرية الجشطلت (لدى رودلف أرنهايم خاصة)، وأيضاً الاتجاهات المعرفية الحديثة (لدى فيتز ومارتنديل خاصة).
كذلك حاول المؤلف تقديم إحاطة ما بعمليات والسلوك الإدراكي عامة، والتفضيل الجمالي خاصة، لدى الأطفال والمراهقين، واستعرضنا كذلك العديد مما تيسر من الأفكار والمفاهيم والدراسات المتعلقة بالتفضيل الجمالي في فنون التصوير، والموسيقى، والأدب، والمسرح والسينما على نحو خاص. كما قدم أيضاً للقارئ العربي فكرة عن هذه الفروع الجديدة النامية على شجرة علم الجمال، وخاصة ما يتعلق منها بجماليات التلفزيون، والجماليات البيئية، وجماليات التسويق، وغيرها.
وخصص المؤلف كذلك فصلاً كاملاً للجماليات البيئية، وهو الفرع الذي مزج بين الدراسات السيكولوجية، ودراسات البيئة والعمارة والجغرافيا، والذي يعد بدرجة ما أكثر فروع الجماليات الجديدة نمواً وتطوراً. ثم اختتم الكتاب بتقديم بعض الأفكار من أجل تنمية عمليات الإحساس الجمالي، والتفضيل الجمالي لدى الصغار والكبار، على حد سواء.
يذكر أن الطبعة الأولى من الكتاب صدرت، سابقاً، عن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية في مارس 2001.