في ستينيته يبدو معرض بيروت للكتاب، الذي يختم دورته الحالية في الـ14 من الشهر الحالي، كائن بعمرين، إذ إنه يتبدى للزائر وكأنه طفل ما زال يحبو، وفي الوقت عينه يظهر كهلا يكلله الشيب.
في ستينيته يبدو معرض بيروت للكتاب، الذي يختم دورته الحالية الأربعاء، كائن بعمرين، إذ إنه يتبدى للزائر وكأنه طفل ما زال يحبو، وفي الوقت عينه يظهر كهلاً يكلله الشيب. وفي كلا الحالين: الطفولة والكهولة، يبدو المعرض ككائن متروك، طفل يتيم أو عجوز تركه أهله للعزلة. إذ كان مستغرباً أن تفتتح الدورة الـ60 لمعرض بيروت العربي والدولي، بلا حضور رسمي وازن على عكس كل الدورات السابقة، حينما كان رئيس الوزراء العامل يتولى افتتاح فعاليات المعرض بالحضور الشخصي وبكلمة تحاول استمداد شرعية ثقافية للسياسة وللطبقة السياسية في لبنان.
لكن اليوم، وفي الوقت الذي يتمتع فيه البلد برئيسين للحكومة، أحدهما يتولى تصريف الأعمال والثاني مكلف بتشكيل حكومة جديدة، فإن المعرض انطلق بقوة الدفع الذاتي. وربما تكون هذه ميزة للمعرض ولمن يقوم عليه، لو أحسنوا استثمارها، إذ تتخلص الثقافة ورمزها الكتاب من عبء السياسة.
ولقد كانت الزيارات السريعة التي قام بها بعض السياسيين للمعرض والجولات العجولة بين أجنحته، وآخرهم الرئيس سعد الدين الحريري، دليل على تلك الفجوة المتعمقة بين السياسي والثقافي، ولولا الإجراءات الأمنية التي رافقت تلك الزيارات لما انتبه إليها أحد.
هذا المعرض الأعرق، وربما الأفقر بين المعارض العربية الشبيهة، يسيّر نفسه بنفسه بلا عنجهيات الاستعراض. فقد كانت لحظة استثنائية في الليلة الثانية للافتتاح، عندما انقطع التيار الكهربائي عن الصالة المترامية التي تحتضن أجنحة المعرض. كانت لحظة متكررة في يوميات اللبنانيين داخل بيوتهم ومكاتبهم، لكن أن تحصل هنا، في صالة (البيال) للمعارض فإنها تعطي دلالة عميقة عن كيفية إدارة اللبنانيين لعادياتهم الممضة. انقطعت الكهرباء فساد صمت بليغ بين ألوف الرواد. لم نسمع كلمة احتجاج أو همسة امتعاض، وفي لحظة واحدة انطلقت ألوف الومضات من ولاعات السجائر وأجهزة الهاتف الجوالة، تنير جنبات الصالة، وكأنها تتحدى العتمة الصارمة بهذا النور الواهن.
بهذه الخلفية تتجول في أروقة المعرض بحثاً عن دلالات الاسم: معرض بيروت العربي والدولي للكتاب، فتصفعك حقيقة سقوط الصفة الثانية من الاسم (الدولي)، إذ لا تجد أي دار دولية أو أجنبية تعرض عناوينها، ما خلا دار إيرانية تقدم بعض المنشورات الدعاوية، وأخرى تركية تمد الزوار بمطبوعات سياحية. ولولا مشاركات محدودة لعدد من الدور السورية والمصرية، لكانت سقطت الصفة الأولى من الاسم أي العربي.
إذن هو معرض لبناني بامتياز، نسبة لدور النشر المشاركة فيه التي يتجاوز عددها المائتين، بعضها عريق وبعضها الآخر مستجد، لكن أغلبها جاد.
نعم، فصناعة الكتاب في لبنان ما زالت تحتفظ بميزاتها الأصلية والأصيلة، فمن بين الكم الهائل من العناوين التي تصدر سنوياً في بيروت، يمكن القول بلا تحفظ إن أكثر الاصدارات تغطي مختلف أنواع الإبداع وصنوف المعارف بعمق يحترم الكاتب والقارئ وبطبيعة الحال الناشر في آن.
وفي جولة واحدة بين العناوين الجديدة، الصادرة خلال العام 2016، ستقرأ كتبا في الرواية والشعر والنقد الأدبي، وفي السياسة والفكر والتراث، وفي الاقتصاد والتكنولوجيا والعلوم، وفي القانون والفلسفة والصناعة والزراعة، بالإضافة إلى ترجمات من عديد اللغات الأجنبية، فضلا عن كتب الطبخ والتنجيم والسير الذاتية. عناوين متباعدة في الثقافة والمعرفة، ومتضادة في الخلفيات الآيديولوجية والسياسية، تتجاور في انسجام واحد فوق الرفوف نفسها. إنها تعبير عن تلك المعدلة القديمة، التي افترضت إن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ، لكن مع تعديل معاصر وجوهري فيها هو: إن بيروت تكتب وتطبع وتقرأ، وعلى الأقل هذا ما أكده “مؤشر القراءة العربي” الذي صدر من دبي قبل أيام، وفيه إن اللبنانيين يتصدرون أقرانهم العرب في معدلات القراءة.
أسبوعان، أي 14 يوماً بالتمام والكمال من أيام معرض بيروت للكتاب، جرت بلا كلل أو ملل، على الرغم من خلوها من تلك الفعاليات الثقافية التي تصاحب معارض الكتب التي تشهدها الكثير من العواصم والمدن العربية، في معرض بيروت، لا ندوات، ولا محاضرات، ولا أمسيات شعرية أو قراءات قصصية. لا مؤتمرات تنعقد على الهامش أو صلب المعرض. فخلال أسبوعين لم تلفت النظر أي فعالية حقيقية باستثناء الندوة التي شارك فيها الوزير رشيد درباس والسيد محمد حسن الأمين لتقديم كتاب عن الراحل هاني فحص.
ورغم وحدانيتها إلا أن الندوة معبرة عن بيروت ومعرضها، خصوصاً عندما يقوم عالم شيعي معمم في قامة السيد محمد حسن الأمين، بالتعبير عن غضب اللبنانيين بسبب إقدام جماعة حزبية معروفة على منع احتفال لطلاب في الجامعة اللبنانية بسبب بثهم لأغاني فيروز! ومن ملاحظات السيد الأمين الدالة، إن كل الغرائز الطائفية والمذهبية، وأحزابها ومنظماتها لم تستطع أن تنتج حالة إبداعية واحدة!
ولولا حفلات توقيع العناوين الجديدة التي تحرص دور النشر على تنظيمها للمؤلفين الذين تنشر لهم، لبدى معرض بيروت العربي والدولي للكتاب وكأنه مجرد سوق للكتاب. عشرات حفلات التوقيع تجري ليلا، يتقاطر إليها أصدقاء المؤلف أو محبوه، فضلا عن الرواد والمهتمين، بدافع المجاملة أو برغبة الاطلاع والاقتناء، يدفعون ثمن الكتاب وتوقيع صاحبه في آن واحد.
إنه معرض يتمم أيامه بصخب محبب، ونشاط ملحوظ، وحوارات تنعقد بارتجال في أروقته تؤكد على حيوية بيروت ومعرضها وكتابها وكتّابها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة