عندما نفكر بالتغيير تمر بالبال أول الأمر حالة التغيير الشامل والجذري.
في فيلم «Pay It Forward» أدى كيفن سبيسي، دور مدرس، يطلب من تلاميذه طلباً غريباً لم يعهدوا مثله، وهو أن يقوموا بعمل واحد، بشرط أن يكون له تأثير لتغيير الحياة للأفضل، لم يأخذ التلاميذ الطلب على محمل الجد سوى الصغير «تريفور»، الذي أراد تطبيقه لتحسين ظروف حياة البؤساء وأولهم أمه المطلّقة، فقرر أن يساعد 3 أشخاص شريطة أن يتعهد كل واحد منهم بمساعدة 3 آخرين، والجُدَد يتعهد كل منهم بمساعدة 3 أيضاً، وهكذا من أجل خلق حالة «وبائية» إيجابية، لتعميم الخير ومساعدة المحتاج داخل المجتمع!
عندما نفكر بالتغيير تمر بالبال أول الأمر حالة التغيير الشامل والجذري، ونكاد نشعر بامتعاض وممانعة الكثير من الناس لتغيير ما اعتادوا عليه وألفوه وتحول من فكرة إلى سلوك ثم إلى عادة متأصلة في العقل الباطن لا يمكن المساس بها، والتغيير فعلاً لا يَسْهُل إلا على من لا يعرف عنه سوى كلمته المجرّدة، فهو خيار صعب وتنفيذه بنجاح أمر شديد التعسّر، فالإحصاءات تشير إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع الشركات العالمية تفشل في مبادرات التغيير الشامل، التي تُطلَق فيها رغم وفرة الخبراء والإمكانات، لكن التعامل مع النفس البشرية صعب للغاية، لأنها سريعة التبدل ومُحبة لما اعتادت عليه، فالتغيير دوماً يُنظَر له كونه تهديداً بخروج الأمور عن السيطرة، وبالتالي فقدان الموجود من مركز أو أهمية أو قيمة!
التغيير المتدرج والطفيف، الذي مارسه ذلك الطفل في الفيلم السابق تؤيده كونه ممارسة فعلية وتجربة جديرة بالانتباه لها، قام بها السير ديف بريلسفورد، الذي أوكلت إليه مهمة تدريب فريق الدراجات البريطاني الأوليمبي، الذي طيلة 76 سنة لم يستطع سوى تحقيق ميدالية ذهبية يتيمة لم تكن لائقة بالتأكيد لاسم المملكة المتحدة وحضورها العالمي، وفي أول بطولة يشارك بها كونه مدرباً في أوليمبياد بكين 2008 نجح وفريقه من تحقيق 7 ميداليات ذهبية من 10، ثم عاد في الأوليمبياد التالي في لندن 2012، وحقق العدد نفسه، ثم أوكلت إليه مهمة فريق الدراجات، الذي لم يسبق له طيلة تاريخه الفوز بأهم بطولة عالمية وهي تطواف Tour De France ومن 4 مشاركات بقيادته نجح الإنجليز في الفوز بـ3 منها!
ما الذي فعله «السير ديف» لكي يأتي بنتائج مدوية كهذه في فترات قصيرة؟ هو بالتأكيد لم يكن يملك لا خاتم سليمان ولا مصباح علاء الدين. الفاشلون وحدهم من يعلقون النجاحات المدهشة على عامل الحظ أو أن هناك شيئاً لُعِبَ به جيداً من تحت الطاولة، أما الناجحون فيعلمون أن الأمور لا تحدث بصورة جيدة إلا إن تم القيام بها بصورة جيدة وبظروف وأشخاص وتوقيت تماثلها في المناسَبة، وأنّ الحظ يختبئ دوماً خلف العمل المضني!
فلسفة «السير ديف» كانت تدعى «تجميع المكاسب الهامشية» Aggregation of marginal gains، التي تقوم على تقسيم كل الأنشطة المحيطة بمهمة معينة إلى أجزاء صغيرة ثم عمل تحسين طفيف لها قد يكون فقط 1%، الذي يبدو ضئيلاً جداً، لكنه فعلياً كبير، لأن التحسين سيطال جميع التفاصيل الصغيرة ومجموعها سيكون كبيراً، وللتوضيح فقد اهتم مع فريق الدراجات بوزن العجلات وتصميم مقعد الدرّاج ونوعية المياه التي يشرب وطريقة غسل اليدين بشكل سليم، بل جعل كل واحد يأخذ «وسادته»، التي يحب من منزله حيثما رحل حتى يستطيع النوم بشكل جيد، قِس على ذلك بقية الأمور، التي قد لا ينتبه لها البعض باعتبارها غير متعلقة بشكل مباشر بطريق الأداء، لكنها أثبتت أنها تؤثر بشدة على أداء الإنسان.
ما يهمني في هذه المنهجية ليس تطبيقها على المؤسسات فذلك يحتاج لتفصيل أكبر شريطة وجود الرغبة الحقيقية ممن بها، ولكن لنأخذها بعيداً لكي نُعيد حُلُم ذلك الطفل من خلال خلق «الوباء الإيجابي»، في مجتمعاتنا ومجاوراتنا السكنية و«حاراتنا» وإحداث موجات من التحسين الملموس والمحسوس معاً، وإيجاد نزعة مجتمعية قائمة على المبادرات السليمة والمحمودة البسيطة، التي بمجموعها سيكون منظر المدينة أجمل وأسلوب الحياة فيها أفضل،
فبدلاً من صب العتب على القصور الذي يتم أحياناً من المؤسسات الخدمية في المدينة أو القرية التي نقطن فيها لماذا لا نبادر بدلاً من «الحرطمة» بأمور بسيطة، لكن مجموعها سيكون ذا تأثير كبير علينا وعلى المنطقة التي نقطن بها، كأن يتعهد كل شخص بتنظيف المنطقة أمام منزله وأن يشجع أبناءه ونفسه بأن يقوموا بإزالة مخلفات ملقاة في طريق الناس لمرة واحدة كل يوم، وأن يضع كتباً معرفية مناسبة أو معززة للحس الوطني والسلوك الجيد في المقاهي وأماكن الانتظار في المستشفيات والعيادات والمصارف والمؤسسات الحكومية بعد أخذ الموافقات، وحمل قنينة مياه باردة وتقديمها لعامل بسيط في الطريق أو شخص ينتظر تحت الشمس لوصول حافلة، أو مساعدة سيدة مسنة لعبور الطريق، و«بلع» الغضب في حالة مضايقتك من سيارة مسرعة أو شخص فض السلوك، متذكراً توجيه النبي، صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرِفق في شيء إلا زانه وما نُزِعَ من شيء إلا شانه»!
الممكن كثير والأمور الطفيفة تشمل أشياء كثيرة ومجموعها سيكون له تأثير جميل على مُدننا ومجتمعاتنا، المهم أن نبدأ ما دامت تلك المبادرات، ما يعزز المسؤولية المجتمعية والدور المطلوب من السكان، وهي ممارسات لا تتعدى دور الوصاية على الآخرين، فإن ألقى شخص نفاية ما، فالأنسب أن تأخذها وتلقيها في مكانها الصحيح دون محاولة نصح أو معاتبة ذلك الشخص، لأنها قد تعود بتشنجات نحن في غنى عنها، فالسلوك الصحيح سيؤدي غرض التوجيه غير المباشر لذلك الشخص، والمهم لا نستصغر جُهداً، فالشمعة الصغيرة تُزيل ظُلمة المكان رغم ضآلة حجمها!
* نقلاً عن البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة