أظن أن هذا التوجّه الفكري المشترك هو ما جمعني وصادق في رفقة أحاول أن أحسب عمرها الآن.
5 حزيران (يونيو) 1997: قلت لطلاّبي في جامعة أمستردام: هذا اليوم مثل بقية الأيام بالنسبة إليكم، لكنّه غير ذلك لملايين من أبناء المشرق من جيلي وربّما جيلين آخرين أحدهما سبقنا والآخر لحقنا. لم أكن في وارد إلقاء خطبة عصماء عن الذكرى الثلاثين لحرب الهزيمة العربية المذلّة مع إسرائيل. في خمس دقائق لخّصت لهم كيف أن ابن السبعة عشر عاماً (أنا) لم تهزّه الهزيمة ولم يغُص جرحها عميقاً في الجسد إلاّ بعد شهور ربما. أكيد أنني كنت سأصيب طلاّبي بالملل لو حدّثتهم عن عدد مجلّة «الآداب» الذي لا أزال أذكر منه مقالاً لأدونيس وقصيدة نزار قبّاني الشعبوية الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة» ولو تحدّثت عن مسرحية «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» الخالدة للصديق الجميل الراحل سعد الله ونّوس.
«هذا الرجل الجالس أمامكم»، قلت للطلاّب، «هزّ جيلاً أنا أحد أبنائه. حاول إيقاظه. لعله أيقظه لفترة. لعلّه فشل. كان أستاذاً أتعلّم منه وهو الآن صديق حميم أتعلّم منه. محاضرة اليوم سيقدّمها صادق جلال العظم».
محض مصادفة. كان صادق في أمستردام يحضر حفل صدور ترجمة كتابه «نقد الفكر الديني» إلى الهولندية. قلت له: صادق، أدرّس «كورساً» عن تكوّن الدول والهوّيات في المشرق وأوروبا. مزروعة في فكر الدارسين الشبان و «خبراء الشرق الأوسط» نظرية/خرافة تقول أن لا هوّيات وطنيّة لنا، بل كتل بشرية اختار المستعمرون أن يضعوا هذه الكتلة هنا وتلك هناك، على عكس الأوروبيين الذين كانوا أمماً كوّنت دولها «في شكل طبيعي»، كما تمضي الخرافة.
أعرف أن هذا ليس من بين اختصاصات صادق. قلت له: «اطرح الأمر من منظور فلسفي».
كان الطلب واضحاً له: صادق وأنا نتشارك في القناعة بـ «ماركسية» لا شعبية لها خارج أوساط المثقفين. هي ماركسية «النقد الذاتي بعد الهزيمة». ماركسية لا تحيل كوارثنا إلى المؤامرات، بل تقترح أن ننظر إلى تعفّن لا دولنا وبنانا الاجتماعية فقط، بل تعفّن سرى ويسري في مجتمعاتنا. ماركسية تبدأ من تحليل البنية داخلياً لكي ترى كيف تفاعلت مع الغرب أو الاستعمار، ولا تبدأ من لطم الصدور على أنفسنا كضحايا لاستعمار لولاه لكنّا بألف خير. طبيعي ألاّ تلقى مقاربة كهذه هوى في نفوس الحركات اليسارية في منطقتنا، بل اليسار الغربي أيضاً. اتّخذ نقده ملموسية أكبر حين وجّه النقد الحاد للمقاومة الفلسطينية والحركات القومية في أوائل السبعينات. فأضافت السلطات العراقية كتاباً جديداً لصادق إلى قائمة الممنوعات حلّل فيه الشعار البعثي الأجوف «أمّة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة».
أظن أن هذا التوجّه الفكري المشترك هو ما جمعني وصادق في رفقة أحاول أن أحسب عمرها الآن. أربع وثلاثون سنة. خرجنا من حصار بيروت نهاية آب (أغسطس) 1982 إلى دمشق. مقاتلاً كنت أم لم تكن، كان الشرط الإسرائيلي أن يلبس واحدنا بدلة المقاتل الزيتونية اللون ويحمل قطعة كلاشنيكوف يسلّمها إلى البلد الذي سيصل إليه. عدا هذا، كان من حقّنا حمل جعبة صغيرة معلّقة على أعلى البطن. كان ذاك زمن لا أقراص مدمجة أو دسكات فيه تخزن فيها شغلك وتضعه في تلك الجعبة. فكيف استأنف الشغل ولا مادة عندي سوى كومة من «بطاقات أو كاردات البحث»، كما كانت تسمّى حشوتها في تلك الجعبة؟
بوسعي أن أدلّ القارئ الآن إلى ذلك الدكّان في مساكن برزة الذي وضع جهاز هاتف في مدخله لتجري مكالمتك. في مقابل ليرة في مساكن برزة اتّصلت بصادق متهيّباً. في بيروت ترجمت ونشرت جزءاً أوّل من مخطوطة ضخمة لماركس عُثر عليها بعد أكثر من نصف قرن على وفاته، ولم تخرج إلى العلن وتنشر بالإنكليزية إلا بعد عقدين، وصارت تُعرف باسمها الألماني «الغروندريسة» (الأسس). قال لي فيصل درّاج: إن لم تجد الكتاب عند صادق، فلن تجده في سورية.
وجدته، ولم أمضِ في ترجمته.
دمشق التي بدت هادئة بعد مجزرة حماة، وأحيل الحديث عنها إلى تابو، كانت تدنو من الانفجار أواسط الثمانينات، لا بسبب تحركات شعبية، بل لأن الصراع على السلطة بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت أوشك أن يوصل سورية إلى حافة حرب حشد فيها كل منهما قواته ومن والاه في أجهزة الاستخبارات. قنّاصة فوق أسطح البنايات كأننا لم نفارق بيروت الحرب الأهلية. فرع 23 وفرع 35 واستخبارات القوة الجوية وغيرها تتقاسم عمل المفرمة بحق المعارضين. وفوق هذا كانت أزمات العيش تطحن دمشق. رجال يركضون وراء شاحنات توزّع علبتي سجائر لكل فرد بعد أن فُقدت من الأسواق. ابتسامات الانتصار على وجه من يحصل على علبة مسحوق الحليب تقول لمن في الطابور إنني في موقع متميّز. رجال يقتحمون الطوابير أمام المخابز معلنين أنهم رجال أمن وراءهم مهمات مستعجلة.
فُرض كتمان مشدّد على المثقفين وكان على المعارضين مثل صادق محاولة السير على صراط مستقيم. ولم يُعط رئيس قسم الفلسفة في جامعة دمشق مادة تدريسية في قسمه سوى تدريس اللغة الإنكليزية تحسّباً من إمكانية حرف مادته التدريسية نحو مجارٍ لا تُحمد عقباها، وأحيلت المواد الأخرى إلى غيره من الأساتذة.
غبطت صادق غرامشياً في تشاؤم عقله وتفاؤل إرادته. يتساءل ويشكّك ويتحمّس وهو يعمل على صياغة بيان عام 2000 الشهير المطالب بإطلاق الحريات العامة وإنهاء الأوضاع الاستثنائية بعد موت حافظ الأسد.
وغبطته وهو فتى يقارب الثمانين متفائل العقل، متفائل الإرادة. انفجرت حماسته (وحماستنا) في شكل غير محسوب مع انفجار ثورات الربيع العربي ليبلغ الذروة مع انطلاقها في سورية. وقف مذهولاً أمام انتصارات حقّقت ما حلم به جيل سبق هؤلاء الثوار وعجز عن تحقيقه. لم ينجُ حتى المثقفّون النقديون من نقده. لمَ جلد الذات، كنت أقول له؟ هل لأن عشرات المثقفين والفنّانين وقفوا ضد أنظمة حكمهم فغابوا في السجون والمنافي من دون أن تتحرك «الجماهير» دفاعاً عنهم أو استنكاراً لقمعهم؟ هل لأن آلاف المصريين كانوا ينزلون إلى الشوارع دورياً احتجاجاً على حكّامهم فيما تقف «الجماهير» متفرّجة أو مصفّقة لمن يقمعهم؟ هل نلوم هؤلاء لأنهم سبقوا عصرهم حين كانت تلك «الجماهير» نائمة؟ أم نذكّرهم بأننا انتظرنا آباءكم الذين شلّهم الخدر والخوف طويلاً؟ تملّك اليقين الفيلسوف المتشكّك واندفع يبشر بالانتصار القادم.
ومع هذا، وبسبب هذا:
أحترمك يا صادق لأنك قضيت حياتك ناقداً ومحرّضاً على الاحتجاج، وأبخست حق نفسك إذ لم ترَ الرابط بين نقدك وتحريضك وبين حشود وصلت إلى ما وصلت أنت إليه قبل عقود.
أحترمك لأنك كنت من بين قلّة قليلة لم تهادن المستبّدين حين كانت غالبية المثقّفين الساحقة ترى أن مجابهة الإمبريالية تبرّر السكوت عن استبدادهم.
أحترمك لأنك رميت بثقلك وقد أثقلتك الشيخوخة والأمراض وراء الثورة.
أحترمك لأنك كابرت ودفنت عقلانيتك حين كانت العقلانية تقول إننا انهزمنا يا صادق.
أحترمك لأنك لم تعلّق على مقالاتي «المتشائمة» في «الحياة».
رفضت الاعتراف بالهزيمة، وأنت تعرف أننا انهزمنا.
وحين بات مشهد احتضار الثورة جليّاً، انطويت على نفسك في صمت وقرّرت الاحتضار.
قالت إيمان: «ذكرنا وئام وذكرناك قبل أن يدخل صادق في غيبوبته النهائية. لا معنى لزيارتك له الآن. لن يتعرّف إليك».
* نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة