لا أستطيع إغفال حجم الشائعات التي تنطلق في أعقاب كل حادث كبير.
الترتيب في العنوان زمني، حسب وقوع الحوادث المحزنة في أرض الواقع. وبسبب نشأتي في قريتي الضهرية مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة، يرتبط المسجد بالكنيسة في خيالي. لا تعرف أين ينتهي المسجد ولا أين تبدأ الكنيسة؟ كان بيتنا الذي يقع في حارة متفرعة من داير الناحية يقع في منتصف المسافة بين مسجد سيدي عبد الله النشابي والكنيسة الوحيدة – ليس في قريتنا وحدها – ولكن في قرى الناحية.
قرية كبيرة يقول عنها علماء الجغرافية: قرية أم. فيها كنيسة تخدم المسيحيين من أبنائها وتقدم خدماتها للمسيحيين في القرى والعزب والكفور المحيطة بها. في طفولتي وصباي. كنا نستمع الأذان من المسجد 5 مرات في اليوم. وفي يوم الأحد أسبوعياً نِصحى على جرس الكنيسة القوي يخبرنا ويقول لنا إن الصلاة بدأت في الكنيسة.
لديَّ الكثير الذي يمكن كتابته عن المسجد والكنيسة اللتين كان يقع بيتنا في منتصف المسافة بينهما. لكن هدفي من الكتابة الآن ما جري لمسجد السلام يوم الجمعة الماضي وللكنيسة المرقسية يوم الأحد. أي أن التفجير الثاني وقع بعد الأول بـ 48 ساعة. أعرف أن هناك تفجيرات وقعت بين هذا وذاك. تفجير الطريق الدولي في شمال كفر الشيخ. وتفجير الطريق الصحراوي في صعيد مصر، الذي استهدف توصيلات الغاز لأشقائنا وأهلنا في الصعيد.
ومثلما استهدف التفجير الأول مسجداً هو مسجد السلام. ولكي يدرك القارئ حجم ما كان يراد من وراء التفجير. ولا يجب أن ننظر أبداً لأعداد الضحايا لا هنا ولا هناك. لأن التدمير والاغتيال والإرهاب يساوي بين المسلمين والمسيحيين في مصر.
قالت لي الدكتورة إحسان سعيد، الباحثة الجادة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. والمعنية بهموم الوطن وقضاياه، والتي تسكن بالقرب من مسجد السلام. إن الهدف من وراء التفجير كان المصلون الذين يصلون الجمعة، ليس داخل المسجد رغم ضخامته. لكنهم كعادة المصريين يفرشون الحصير حول المسجد ويصلون بأعداد ضخمة.
فارق التوقيت السبب. جاءوا قبل صلاة الجمعة، واستهدفوا كميناً متحركاً يقام لحظة الصلاة لحماية المصلين، حتي ينتهوا من صلاتهم. عندما وصلت عناصر الكمين كانوا لها بالمرصاد. وهكذا أصبح لدينا شهداء، ولا يتصور أحد أن الشهيد هو من يستشهد في الحروب المنظمة بين الدول. أو مع الدول العدوة. فكل من قدم عمره لما يؤمن به، فهو شهيد.
تفجير الأحد الذي أتمنى أن يكون آخر التفجيرات. جري في غرفة داخل كنيسة، تقام فيها صلاة الأحد. والصلاة تقام في حجرتين كبيرتين. واحدة مخصصة للرجال، والأخري مخصصة للنساء. ومن الطبيعي أن يكون مع النساء أطفالهن الصغار لحضور الصلاة.
قال رواة الحادث لوسائل الإعلام والقائمون على العمل في الكنيسة وحراستها، إن امرأة كانت تحمل القنبلة شديدة الانفجار ومتقدمة الصنع، دخلت وتركتها وانصرفت. ثم انفجرت القنبلة بعد انصرافها. لتحصد عدداً كبيراً من الشهداء، وأقول الشهداء، ولا أحب أن يقول عنهم القتلى، أو الضحايا. فهم شهداء عندما ذهبوا إلى الكنيسة كانوا يدافعون عن سماحة مصر ووجه مصر الجميل. فتم اغتيالهم وهم مشغولون بأداء فرائض دينهم، أي بين يدي الله.
لم يحدث في التاريخ الإنساني ولا حتى في زمن الطغاة الكبار الذين أشعلوا حروب الدنيا أن قتل إنسان وهو يؤدي صلاته. وأن قتل إنسان وهو في المكان الذي يصلي فيه لربه. وحتى من يريد أن ينفذ القتل. ينتظر خارج مكان العبادة – مسجداً كان أم كنيسة – لينفذ فعله الأثيم.
لا أدافع عن القتلة الذين قتلوا الكثير من أبناء الإنسان في كل زمان ومكان. ولكني أريد القول إن المتطرفين والإرهابيين تجاوزوا كل الحدود، وفعلوا ما يتفوق حتى على الخيال الإنساني. مما يثبت لنا – وأرجو أن يثبت ذلك لأهلي وناسي وأبناء بلدي ممن لا ينظرون إلي ما راء الأمور ويكتفون بالظاهر ويصدقون ما يقال لهم من القتلة – بشاعتهم وانحطاطهم وبعدهم عن الدين. أبحث في مفردات اللغة عن كلمات تصف هذا السلوك ولا أوفق للعثور على كلمة يمكن أن تصف ما جرى.
لست خبيراً في شئون تأمين الكنائس أو المساجد. وكلامي يمكن أن يؤخذ على أنه كلام هواه. وليت كل هاوٍ – مثلي – يتوقف عن إبداء الآراء والكلام في ما لا يعرف من الأمور. وما أسهل كلام من لا يعرف. وما أصعب كلام من يعرف. لكن لا أعتقد أن الوقت مناسب لتناول هذا الأمر. وعلينا أن نحترم دولة القانون وننتظر نتيجة التحقيق الذي يجري الآن وتحريات قوات الأمن وبحثها عن الجناة، وبعد أن تنشر هذه التقارير يصبح لنا كلام آخر. المهم أن نترك أمراً بهذه الخطورة لأهل الاختصاص.
لا أدري هل هي من سلبيات أم من إيجابيات الشخصية المصرية من يقولون رأيهم في كل شيء، ويقدمون فتاويهم في كل ما يحدث. بصرف النظر هل كانوا أهل اختصاص أم لم يكونوا. هل ذلك علامة من علامات الصحوة والاهتمام بالوطن؟ واعتبار أن ما يحدث لهم يصيبنا جميعاً؟ أم أنه ناتج عن حالة من الفراغ؟ أم السبب أن الناس عندما يقع حادث بسبب حجم حادث الكنيسة. وقبله حادث المسجد، تحدث لهم حالة من الاهتمام الصحي والذي يجب أن نحرص عليه وأن نشجعه وأن نعتبره من أعراض الوطنية التي يجب أن نشجعها ونحرص عليها ونعتبرها من إيجابيات حياتنا الآن. أم ماذا؟.
لا أستطيع إغفال حجم الشائعات التي تنطلق في أعقاب كل حادث كبير. والشائعات جزء جوهري من حياة المجتمعات. لم أعش طوال عمري خارج مصر. ولا أعرف هل هذه الشائعات موجودة في مجتمعات أخرى في العالم؟ أم أنها تخصنا وحدنا؟.
تصورت أن الشائعة تفرخ وتزدهر وتنتصر عند التقصير الإعلامي في توصيل حقائق ما جري للناس. مع أن حق الناس مقدس في أن تكون أول من يعرف ما يجري في بلادها. إن شاءت أن تعرف ما يجري في بلاد العالم، فهذا حقهاً أيضاً. من المستحيل أن أقول إن بلادنا تخلو من الإعلام: المقروء والمسموع والمرئي، وأيضاً إعلام التواصل الاجتماعي وفضاء الإنترنت. فما هي الحكاية بالضبط؟!.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة