التفات العالم الى هذا الجانب وبالشكل المكثف الذي نراه اليوم جاء بفضل برامج تلفزيونية ووثائقية جادة تحسب لها مساهمات مهمة.
ما فعله «داعش» بآثار مدينة تدمر في سورية وفي سهل نينوى في العراق، وقبله «القاعدة» في أفغانستان ليس مجرد تهديم لأنصاب وتماثيل من حجر وطين بل هو فعل شديد الصلة بالحروب وغاياتها ومن بين أبشعها وأشدها عدوانية «محو» الوجود الحضاري «للعدو» ونسف كل دليل تاريخي يشير الى وجوده على بقعة الأرض المتصارع عليها أو التي أخذت عنوة منه، بالتالي هي غاية واعية انتبه اليها محللون ومفكرون من بينهم روبرت بيفان الذي وضع كتاباً بعنوان «تدمير الذاكرة ـ العمارة في الحرب»، وعليه أسس الوثائقي التلفزيوني الأميركي «تدمير الذاكرة» معماره وراح يشيّد تفاصيله على قراءة بصرية متأنية لمتنه، محاولاً من خلالها ربط ما يقوم به «داعش» في العراق وسورية وبين ما فعلته جيوش وميليشيات مسلحة في مناطق أخرى من العالم بينها «البلقان» وقبلها النازية حين شنت هجمات منظمة ضد مواقع «الإرث الثقافي» لخصومها وأصرت على إزالتها من الوجود.
التفات العالم الى هذا الجانب وبالشكل المكثف الذي نراه اليوم جاء بفضل برامج تلفزيونية ووثائقية جادة تحسب لها مساهمات مهمة في معاينة عنصر تدميري لا يُلتفت اليه كفاية حين يشْرع (دول وأفراد) في معاينة آثار الحروب والصراعات عادة، ولهذا نرى اليوم التلفزيونات الغربية تعرض أعمالاً تتناول الظاهرة من أكثر من منظور، من بينها واحد سويدي جاء ضمن سلسلة وثائقيات «الثقافة في مناطق الخطر» ركز أساساً على ما تعرضت له مدينة تدمر السورية. مشاهدة تلك الأعمال تقول إن الحرب على الثقافة ومحاولة محو «الذاكرة البشرية» لا تقل بشاعة من بقية بشاعات الحروب، بل ربما تعد من بين أكبر خسائرها، كونها غير قابلة للإحياء على عكس التدمير «المادي» فهو قابل للتعويض والإعادة. لهذا اعتبرت القوانين الدولية جرائم «الإرث الثقافي» جرائم حرب تنضوي تحت خانة «حروب الإبادة البشرية» معنوياً، ولأن قسماً كبيراً من تراثنا وحضارتنا دمر على يد «داعش» فإننا معنيون بالموضوع والمساهمة فيه ليعرف العالم حجم الخسارة التي تعرضنا لها. ولكن حتى لا ننتظر من الآخرين وحدهم عرض حجم ما ألمّ بنا من خراب، على تلفزيوناتنا المحلية، وبخاصة العراقية العمل على تقديم صورة حقيقية عنها عبر مشاريع تذهب الى توثيق الإبادة الحضارية والفكر الذي يقف وراءه ومناشدة العالم للمساهمة في منع تكراره، واستغلالها فرصة لعرض حضارتنا وآثارنا الإنسانية الطابع ليعرف العالم حجم مساهمتنا فيه وبالتالي الحاجة الى تضامنه معنا في ترميم ما تبقى منه.
ربما ليس بمستطاع تلفزيون واحد تغطية هذا الجانب الواسع فلا بأس في هذه الحالة من العمل المشترك، لأن المهمة تستحق التنسيق وإشراك أطراف كثيرة فيه حتى يأتي قريباً من مستوى البرامج الوثائقية التي يقدمها الغرب عن «تدمير إرثنا الثقافي».
* نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة