المنصور مات حاجًا، والمهدي مات بميسلان، والهادي بعياباد، والرشيد بطوس، والأمين قتل خارجها، والمأمون بطرسوس، والمعتصم والواثق والمتوكل والمستنصر بسامراء
قيل عنها إنها أم الدنيا وسيدة البلاد وجنة الأرض ومدينة السلام، وقبة الإسلام، ومعدن الظرائف ومنشأ أرباب الغايات.
إنها (بغداد) ما غيرها - أقصد بغداد التي (كانت)، وليست بغداد (اليوم).
وقد كان من حكامها المترفين في ذلك الوقت (المقتدر بالله)، شيد دارًا سميت: (دار الشجرة)، وسميت بذلك الاسم لأن شجرة أقامها هناك من الذهب والفضة في وسط بركة كبيرة أمام أبوابها، ولها من الذهب والفضة ثمانية عشر غصنًا، ولكل غصن فروع كثيرة مكللة بأنواع الجواهر على شكل الثمار، وعلى أغصانها أنواع الطير من الذهب والفضة، إذا هب الهواء سمعت منها الهدير والصفير، وفي جانب الدار وعن يمين البركة تماثيل لخمسة عشر فارسًا، قد ألبسوا أنواع الحرير المدبج مقلدين بالسيوف.
ومن قضاتها الأذكياء (أبو يوسف)، الذي أنقذ الخليفة (هارون الرشيد) من وقوع الطلاق، وذلك عندما غضب على زوجته (زبيدة)، وقال لها: أنت طالق إن بت الليلة في مملكتي، وندم بعدها على ذلك، ووقع في مأزق حيث لا طائرات في ذلك الوقت لتبعدها ولو ليلة واحدة عن مملكته الشاسعة، فاستفتى القضاة فأجمعوا على طلاقها، غير أن أبا يوسف قال له: تبيت في أحد المساجد، فإن المساجد لله، ومن فرحته ولاه القضاء بكامل مملكته، ومن فرحة (زبيدة) أن أغدقت عليه العطايا الثمينة، وأثبت بذلك أنه أذكى القضاة وأخبثهم.
المهم أن من شيد بغداد هو (أبو جعفر المنصور)، وقبل أن يشرع بذلك أتى بالمنجم المشهور (نوبخت) ليختار له الوقت المناسب في ذلك، فاختار طالع القوس، باعتباره يدل على طول البقاء، وزاد على ذلك بأن قال لأمير المؤمنين مبشرًا: إن هناك خلة أخرى وهي أنه (لا يتفق بها موت خليفة)، فتبسم المنصور وقال: الحمد لله على ذلك.
وفعلاً فالمنصور مات حاجًا، والمهدي مات بميسلان، والهادي بعياباد، والرشيد بطوس، والأمين قتل خارجها، والمأمون بطرسوس، والمعتصم والواثق والمتوكل والمستنصر بسامراء.
وقد قال فيها الشاعر:
أعاينت في طول من الأرض أو عرض/ كبغداد من دار بها مسكن الخفض
صفا العيش في بغداد واخضر عوده/ وعيش سواها غير خفض ولا غض
قضى ربها أن لا يموت خليفة/ بها.. إنه ما شاء في خلقه يقضي
ولا أدري ما حال الشاعر وحال المنجم (نوبخت) لو علما أن الملك (فيصل الأول) مات فيها في أوائل القرن العشرين، وقضى فيها الملك (غازي) في حادث سيارة، وقتل فيها الملك (فيصل الثاني) رميًا بالرصاص، وفي أوائل القرن الحادي والعشرين أعدم فيها شنقًا حتى الموت الرئيس (صدام حسين).
إذن يحق لنا أن نقول: (كذب المنجمون ولو صدقوا)، ومعهم الشعراء كذلك.
* نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة