ومع ذلك فقد نال نجيب محفوظ الكثير من شظايا التعصب الذى تفجر فى نفوس البعض، سواء فى حياته أو بعد مماته،
فى مثل هذا اليوم منذ 105 أعوام ولد أديبنا الأكبر نجيب محفوظ، وقد تعثرت ولادته مما استدعى طلب أحد كبار الأطباء وعدم الاكتفاء بالمولدة التى كانت تعرف ياسم «الداية»، وحين تمت أخيرا الولادة بنجاح قررت الأم تسمية المولود باسم الطبيب القبطى الذى ولدها، وهو الدكتور نجيب محفوظ باشا، ومن الغريب أن لقب العائلة التى ولد فيها نجيب محفوظ هو الباشا، فاسمه بالكامل هو نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم الباشا، ولو قرر محفوظ الاحتفاظ بلقب العائلة لكان اسمه هو نجيب محفوظ الباشا، ولم يكن اسمه ليختلف عن اسم الطبيب إلا فى حرفى الألف واللام اللذين يسبقان اسم باشا.
وقد شب نجيب محفوظ مجسدا للوحدة الوطنية التى ميزت الشعب المصرى على مدى تاريخه، إلى أن حل بنا بلاء الإخوان واتباعهم من أصحاب ذلك الإسلام الذى لم نعرفه من قبل، الإسلام الذى يذبح ويقتل ويفرق بين السنى والشيعي، وبين المصرى المسلم والمصرى المسيحي، ولم يكن تجسيد نجيب محفوظ للوحدة الوطنية تجسيدا رمزيا بسبب الاسم، وإنما كان جزءا أصيلا من مكون شخصيته، كما هو مكون رئيسى من مكونات الشخصية المصرية، وقد روى لى الأديب الكبير كيف تعرف على معظم كنائس القاهرة الكبرى من خلال الزيارات التى كانت تقوم بها والدته والتى كانت تصحبه فيها، وقال إن والدته لم تكن تفرق فى زياراتها بين بيوت العبادة الإسلامية والمسيحية، وبين الآثار المصرية القديمة والإسلامية، التى عرفها نجيب محفوظ منذ نعومة أظفاره.
ومع ذلك فقد نال نجيب محفوظ الكثير من شظايا التعصب الذى تفجر فى نفوس البعض، سواء فى حياته أو بعد مماته، ولم تكن تلك المطالبة التى أطلقها أخيرا النائب البرلمانى القادم من دمياط بوجوب تقديم محفوظ للمحاكمة الأولى من نوعها، لكنها تميزت بأنها جاءت متزامنة مع ذكرى ميلاد الأديب الأكبر، والتى كنت أتصور أن نحتفل بها بطريقة أفضل من ذلك فننتهزها فرصة كى نذكر العالم بأن لدينا من الأدباء والمثقفين من نالوا تقدير واحترام العالم حتى نغير ولو قليلا من تلك الصورة المشوهة التى يبثها البعض عن الإسلام والمسلمين باعتبار الإسلام دين عنف واغتيال، والمسلمين شعوبا دموية متخلفة، لكن البعض أبى إلا أن تغطى دعوته لمحاكمة محفوظ على الاحتفال بذكراه بما يخدم صالحنا الوطني.
وأذكر أن أحد هؤلاء رفع دعوى حسبة ضد نجيب محفوظ حال حياته مطالبا بتطليقه من المرحومة زوجته باعتباره كافرا(!!!)، وقد كان محفوظ وقتها فى الـ 84 من عمره، وقد انتشرت أنباء تلك الدعوى بسرعة فى أجهزة الإعلام الدولية، وقال لى محفوظ وقتها والألم يعتصره: لقد تألمت كثيرا أن وجدت الإذاعات الأجنبية (لم يكن وقتها يشاهد التليفزيون بسبب ضعف نظره) تفرد مساحات من نشراتها الإخبارية لتقول إنه يجرى الآن فى مصر الاستعداد لتطليق نجيب محفوظ من زوجته وفق الشريعة الإسلامية بسبب رواية كتبها، ثم قال: ليس هذا ما تستحقه مصر، إن مصر أكبر من ذلك بكثير، فهى أم الأمم جميعا، لذلك ينبغى ألا أن نحكم عليها بأعمال بعض أبنائها الذين لا يمثلون حقيقتها، فمصر هى أصل الحضارة، والحضارة هى الحب والخير والجمال، وهى أيضا الوعى الذى يفرق بين الحق والباطل.
أما على المستوى الشخصى فقد تألم محفوظ من أن تتم «جرجرته» فى المحاكم فى تلك السن وهو الذى لم يدخل محكمة فى حياته ولا دخل حتى قسم شرطة، وقال لى وقتها: كم من مرة نصب على فى بعض المال أو قذفنى شخص بما ليس في، وجاءنى المحامون يطلبون أن يقيموا لى دعوى قضائية مؤكدين أن القضية مضمونة والتعويض فيها مؤكد، لكنى كنت أرفض ذلك حتى لا أضطر للذهاب الى المحاكم، والآن يصعب على فى هذه السن، حيث أخضع للعلاج من آثار محاولة الاغتيال، أن أمثل أمام المحكمة طوال فترة نظر القضية.
ولم يكن محفوظ يعلم وقتها أن فى ذكرى ميلاده الـ 105 سيجيء من يرى أنه كان يجب محاكمته، فقد كان محفوظ لا يرى فى هذا البلد إلا كل ما هو خَيٍر وجميل، فقد كان ينتمى لجيل لم يعرف التطرّف والتعصب الذى نعيشه هذه الأيام، وقد قال لى ذات يوم: إن الجيل الذى انتمى إليه نشأ دون ذرة تعصب، لم يكن هناك مسلم ومسيحي، ولا كان هناك سنى وشيعي، فقد كنا جميعا مصريين، وكان هذا هو السائد على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية، حتى إن الوزارة التى لم يكن يزيد عدد أفرادها على أصابع اليدين كان بها وزيران على الأقل من المسيحيين، وكان ذلك يأتى مصادفة ودون قصد، ولمدة طويلة كان رئيس مجلس النواب مسيحيا، وهو ويصا واصف باشا، محطم السلاسل كما كنا نسميه، لأنه كسر السلاسل التى أقفلت بها أبواب البرلمان بعد أن قرر رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا إغلاقها فى وجه النواب، لذلك كان ويصا واصف بطلا قوميا فى ذلك الوقت.
ثم يضيف الأستاذ: لقد كنت تجد فى الانتخابات أن داعية إسلاميا كبيرا يفوز فى دائرة قبطية، وقد حدث أن حزب الوفد رشح أحد الأقباط فى دائرة بالوجه البحري، فطلب المرشح من النحاس باشا زعيم الحزب أن ينقله الى دائرة أخرى يكون بها تعداد قبطى كبير لتكون فرصته فى النجاح أوفر، لكن النحاس قال له أنه رشحه بهذه الدائرة عن عمد، وقال له: إننا نربى الناس سياسيا، وهذا أهم من الفوز فى الانتخابات، ولقد خاض المرشح القبطى الانتخابات ونجح فيها رغم أن الدائرة لم تكن دائرة قبطية.
وإذا كنا نتحدث دائما عن عنصرى الأمة فإن نجيب محفوظ كانت له وجهة نظر أخري، وهى أن مصر ليس بها عنصران، فنحن عنصر واحد نحن جميعا من نسل الأقباط، لكن بَعضُنَا دخل الدين الإسلامي، والبعض الآخر ظل على دينه المسيحي، وكثيرا ما كان يتزاوج أولئك من هؤلاء، وكنا فى جيلنا نسمى أنفسنا جميعا أقباطا وطنا ومسلمين أو مسيحيين دينا.
رحم الله محفوظ فى ذكرى ميلاده هذه ورحم جيله الذى أصبحنا نفتقر لكل ما ميزه من الأصالة والمحبة والاستنارة وسعة الأفق.
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة