رأيت فى مقالة سابقة (انظر الأهرام، 22 أكتوبر 2016) أن ديكارت أبا الفلسفة الحديثة تأثر بابن رشد عندما قال عبارته المشهورة
رأيت فى مقالة سابقة (انظر الأهرام، 22 أكتوبر 2016) أن ديكارت أبا الفلسفة الحديثة تأثر بابن رشد عندما قال عبارته المشهورة: أنا أفكر، إذن أنا موجود، واتخذ من فكرة الأنا أساسا لفلسفته. فكيف يمكن إثبات هذا الرأى؟هل اطلع ديكارت على كتابات ابن رشد؟ كان ديكارت يتقن اللاتينية ويكتب بها، ولكن ليس من المعروف أنه اطلع على الفيلسوف العربى كما ترجم إلى تلك اللغة؛ ولا توجد فى مؤلفاته بقدر علمى إشارات صريحة إلى ابن رشد. ويبدو من غير المجدى إذن أن نبحث عن علاقة أحد الفيلسوفين بالآخر عن طريق المقابلة بين نصوص هذا وذاك. فهل وصلنا إلى طريق مسدود؟
كلا. هناك طريقة أخرى لتناول الموضوع. فديكارت لم يكن فى حاجة إلى قراءة ابن رشد لكى يلم بآرائه التى تعنيه.كان الفيلسوف العربى مشهورا وسييء السمعة بسبب نظرية نسبت إليه، وهى نظرية وحدة العقل - أى أن العقل واحد لكل البشر- وهو ما يؤدى إلى نفى تعدد الأفراد. ومعنى ذلك أن وجود الأنا المفكرة كان موضوعا لبحث وجدل محتدم تحت عنوان وحدة العقل وتعدد الأفراد. فمن يستخدم ضمير المتكلم لا بد أن يكون فردا بين أفراد متعددين؛ ولا مجال لاستخدام هذا الضمير إذا لم يوجد أفراد. ومعنى ذلك أيضا أن تأكيد ديكارت وجود الأنا المفكرة لم ينشأ فى فراغ ولم يخلق من العدم، بل جاء فى ذلك السياق ولا يفهم إلا على ضوئه..
والفيلسوف الذى طرح قضية وحدة العقل وطرحها بشدة لم يكن أحدا سوى ابن رشد. ولا بد أن أخباره وسوء سمعته بسبب هذه القضية التى شغلت الثقافة الأوروبية بداية من القرن الثالث عشر قد بلغت ديكارت؛ فذلك أمر مستبعد لعدة أسباب. نحن نعرف أن ديكارت تربى فى مدرسة لليشوعيين ودرس فلسفة العصور الوسطى (الفلسفة المدرسية). وكان يكفيه لكى يلم بالموضوع أن يقرأ الكتاب الذى خصصه القديس توماس الأكوينى تحت عنوان وحدة العقل ضد الرشديين لنقد ابن رشد وأتباعه اللاتينيين وتفنيد آرائهم فى نظرية العقل الواحد.وكان يكفى ديكارت أن يلمما تعرض له الأستاذ العربى وأتباعه الأوروبيون من اتهامات وإدانات ولعنات بسبب تلك النظرية.
يضاف إلى ذلك أن هذه النظرية المنسوبة إلى ابن رشد أثارت فى الثقافة الأوروبية مخاوف وكوابيس عرضها بالتفصيل جان- بابتست برينيه فى كتاب عنوانه ابن رشد المحير(باريس 2015).وبلغت الأخبار المستنكرة فلاسفة أتوا بعد ديكارت مثل ليبنتز (1646- 1716) وكانط (القرن الثامن عشر). ومحال أن نتخيل أن ديكارت كان فى غفلة تامة عن تلك الأخبار المنتشرة على نطاق واسع. ومن الواضح إذن أن قول ديكارت إنه يفكر وإنه موجود كان احتجاجا على ذلك الوضع المستشنع، ألا وهو ضياع الأفراد واستقلالهم فكرا ووجودا. وكان محاولة لاستخلاص النفس الفردية من الاندماج فى محيط متجانس لا تميز فيه نفس عن نفس. وقد يقال إن تأكيد ديكارت وجود الذات المفكرة كان ثورة على هيمنة السلطات الكنسية وهيمنة فلسفة أرسطو التى فرضتها تلك السلطات بعد تدجينها وحظرت الخروج عليها كما حظرت الخروج على الكتاب المقدس؛ وكان دعوة إلى افتتاح طريق جديد إلى التفكير الحر على ضوء نور العقل وحده. وكل ذلك صحيح، ولكن ديكارت لم يكن يستهدف أرسطو بصفة عامة، بل كان يستهدف إذا شئنا الدقة -أقوال أرسطو عن جزء محدد من النفس، يسمى العقل الهيولانى (أو المادى) واختلف الشراح فى تفسير وضعه وكيفية وجوده، وانتهى ابن رشد بعد جهود مضنية وتقليب الرأى على وجوهه المختلفة إلى أن أقوال أرسطو عن هذا العقل تدل على أنه واحد (أو كلى) لجميع أفراد البشر وعلى أنه جوهر قائم بذاته ومستقل عنهم وأنه أزلى يبقى بعد فنائهم. ومعنى ذلك أن ديكارت كان يستهدف مفهوم العقل المادى الأرسطى كما فسره ابن رشد وهو تفسير واحد من بين عدة تفسيرات محتملة على ذلك النحو مما أدى إلى نفى وجود الأفراد.
من المؤكد أن ابن رشد لم ينكر تعدد الأفراد. فكيف نفهم الأمر على حقيقته؟ أعتقد أن اتهام ابن رشد بتلك النظرية بلا تحفظات يستند إلى قراءة تبسيطية لأقواله. وتدل القراءة الصحيحة لهذه الأقوال كما وردت فى شرحه الكبير على كتاب النفس لأرسطو أنه لم يعتمد تلك النظرية -التى تؤدى لا محالة إلى نتائج لا يقبلها العقل - إلا بشروط ومع تحفظات تجاهلها نقاده أو قللوا من شأنها.فقد حاول إصلاح النظرية وتعديلها بحيث تحقق نوعا من التوافق بين وحدة العقل وتعدد الأفراد.
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة