لم ينعكس التطور المجتمعي الإيجابي في العراق منذ 2003، على أداء البرلمان الذي يفترض أنه يقود المجتمع نحو التطوّر، كما يحصل في دول أخرى، إذ إنه يسير في الاتجاه المعاكس لمسيرة المجتمع.
لم ينعكس التطور المجتمعي الإيجابي في العراق منذ 2003، على أداء البرلمان الذي يفترض أنه يقود المجتمع نحو التطوّر، كما يحصل في دول أخرى، إذ إنه يسير في الاتجاه المعاكس لمسيرة المجتمع.
وعلى العكس تماماً من الانفتاح والتسامح والانسجام الذي بدا واضحاً بين فئات الشعب العراقي المختلفة، والتي توحّدت عموماً في مواجهة الفساد والإرهاب والتطرف الديني والقومي، فإن البرلمان أجاز هذا العام قوانين لم يفكر بها حتى نظام صدام المتّهم بالتخلّف والديكتاتورية والتعصّب، بل إن بعض القوانين كان غير مسؤول.
منذ سنوات عدة والاحتجاجات الشعبية على أداء الحكومة والبرلمان متواصلة، وساحة التحرير وسط بغداد والساحات الرئيسية في المدن الأخرى تغصّ أيام الجمعة بالمحتجين من كل شرائح المجتمع، وقد اتسمت تلك الاحتجاجات بالسلمية ورفع شعارات مسؤولة والمطالبة بحقوق مشروعة، وشارك فيها مواطنون من جميع الطوائف والطبقات والأعراق والأعمار. لم تشهد تلك التجمعات الشعبية أي شعارات طائفية أو عنصرية، ولم تطالب بأكثر من تطبيق القانون ومحاربة الفساد وتشكيل حكومة كفاءات تدير البلاد وتخلّصها من فساد المسؤولين الحزبيين الذين يستخدمون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية.
وقد نجح الحراك الشعبي في إحداث تغيير جزئي في الحكومة، إذ استقال عدد من الوزراء الحزبيين وحلّ محلهم وزراء تكنوقراط لإدارة بعض الوزارات، لكن الإصلاحات والاستجابة لمطالب المحتجين توقفت منذ أشهر عدة، وامتنعت كتل معينة عن التنازل عن حصتها في الحكومة، بينما تمكّنت كتل أخرى من التحكّم بالوزراء "التكنوقراط" الذين حلوا محل وزرائها المستقيلين. لا ننسى أن الوزارات ومؤسسات الدولة تتحول فور تسلّم وزير حزبي إدارتها إلى وزارات ومؤسسات حزبية، لذلك فإن تغيير قمة الهرم وحده لن يحل المشكلة.
وقد تحلّى المحتجون بأرفع درجات المسؤولية والوطنية والسلمية والنبل الإنساني، لكن البرلمان كافأ هذه الأريحية والوطنية والحرص بقوانين جائرة لا تنم عن شعور بالمسؤولية أو إحساس بخطورة الوضع الذي يمر فيه العراق. وأول تلك الإجراءات، إقالة وزير الدفاع خالد العبيدي في أحلك ظرف يمر به العراق عندما كان يقود معركة تحرير الموصل. لم يكترث النواب لمناشدات الحكومة والشعب بأن الظرف غير مناسب وليس هناك ما يبرر الإقالة، إلا أنهم مضوا في قرارهم من دون أدنى شعور بالمسؤولية. وعندما سُئل أحد القادة السياسيين عن أن الوضع الأمني يوشك على الانهيار، أجاب أن "المجتمع الدولي لن يسمح بذلك"! أي أن القادة العراقييين يعوّلون على إنقاذ دول العالم لهم من دون أن يكترثوا لحل مشاكلهم بأنفسهم.
وأعقبوا ذلك القرار بإقالة وزير المالية هوشيار زيباري في فترة هي الأخرى حرجة وتتطلب وجود وزير مالية قدير يمتلك علاقات دولية من أجل ترتيب وضع العراق المالي. صحيح أن هناك مخالفات مالية وتصرفات لا مبالية أقدم عليها الوزير زيباري، إلا أن الإقالة لم تكن مبررة في ظرف يواجه فيه العراق أزمة مالية وأمنية.
القرار الخطير الآخر الذي اتخذه البرلمان في الوقت الخطأ، والذي له أبعاد اقتصادية وقانونية ويخل بالحريات المدنية ويسيء لشرائح كبيرة في المجتمع، خصوصاً من غير المسلمين، كان قرار حظر بيع واستيراد وتصنيع المشروبات الكحولية، الذي لم يسبق أن شُرِّع في العراق سابقاً. كان مشروع القانون الذي أرسلته الحكومة إلى البرلمان يهدف إلى تنظيم عائدات البلديات وفرض الضرائب على المشروبات الكحولية لتعزيز موارد الدولة، لكن نائباً في اللجنة القانونية، وبتواطؤ واضح من رئيس البرلمان، وضع فقرة الحظر في القانون من دون أن يعلم بها حتى زملاؤه في اللجنة القانونية، فصوّت النواب على قانون يقيّد حرية الناس ويجرد الدولة من موارد مهمة ويتعدى على معتقدات الأديان الأخرى.
بعد ذلك، مرر البرلمان قانون "الحشد الشعبي" بلا اكتراث لآراء الكتل السياسية الأخرى، التي أرادت أن يكون القانون وطنياً وليس خاصاً بجهة أو طائفة معينة. الجميع يدرك الحاجة إلى سن قانون ينظم نشاط الجماعات المسلحة خارج الجيش والشرطة، لكن جرت الأعراف البرلمانية أن يكون هناك حوار ثم توافق من أجل زيادة الانسجام والتلاحم بين المكونات. أما القانون الذي يناقشه البرلمان حالياً، والذي يعتبره البعض مهماً، بل يوازي في أهميته قانون الموازنة الذي ينص الدستور على صدوره قبل نهاية العام، فهو قانون العشائر الذي يؤسس لوضع قانوني للقبائل يتعارض مع سلطة الدولة والمجتمع المدني. القبيلة كيان اجتماعي ويجب أن يبقى ضمن الحيز المتاح للمجتمع المدني، وأن تشريع قوانين ترسّخ وجودها قانونياً يتعارض أساساً مع الدولة الحديثة والنظام الديموقراطي.
المجتمع العراقي يتّجه نحو التطور والمدنية والتسامح والتعايش، ويطالب بصيانة حقوق الإنسان وتعزيز الحريات المدنية وتطوير الاقتصاد والانفتاح على العالم والانتماء إلى المجتمع الدولي والعصر الحديث، بينما البرلمان العراقي يسن قوانين بدائية إقصائية لا تمت الى المدنية والديموقراطية بصلة. قبل أيام، نظمت فتيات مطالبات بالحرية وتعزيز دور المرأة في المجتمع، تظاهرة وسط بغداد وكن يركبن الدراجات الهوائية في تحدّ لمن يريدون أن يجرّوا المجتمع إلى الوراء.
هذا التطور المجتمعي المصحوب بحراك ونشاط متميزيْن تواجهه القوى السياسية بسن قوانين مقيدة للحريات والاقتصاد ومعرقلة لحركة التطور الطبيعي في المجتمع الحديث. هذه المواجهة محسومة لمصلحة قوى التطور. وإن تمكنت قوى التطرف والتخلف أن تعرقلها وتحدّ من تقدمها لفترة من الزمن، فإن النهاية ستكون، كما كانت دوماً، لقوى التطور والعصرنة. الاستعانة بالفتاوى والنصوص الدينية لمواجهة تطور المجتمع ستزيد الشباب إصراراً على أن يعيشوا حياتهم بحرية كما يفعل الشباب في بلدان العالم المتقدمة.
* نقلاً عن " الحياة "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة