تواجه المملكة المتحدة ومعها حزب المحافظين الحاكم، صعوبات جمة ناجمة عن الاستفتاء الشعبي الأخير
تواجه المملكة المتحدة ومعها حزب المحافظين الحاكم، صعوبات جمة ناجمة عن الاستفتاء الشعبي الأخير الذي أسفر عن تصويت قسم كبير من الشعب البريطاني على خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي. ويمكن القول إن رئيسة الحكومة الحالية تيريزا ماي تسعى إلى تجاوز التبعات المكلفة للبريكست الصعب والخشن من مؤسسات الاتحاد، من خلال العمل على تحقيق خروج سلس وناعم من أجل تجنيب الاقتصاد البريطاني الهزات العنيفة التي يمكن أن تترتب على هذا الانفصال المؤسساتي العنيف؛ بيد أن التعقيدات الكبرى التي بات يعرفها هذا الملف تشير إلى أن الخروج الصعب قد يكون خياراً من المستحيل تجنبه، وبخاصة إذا انطلقنا من المعطيات المتوافرة في المرحلة الراهنة.
لقد استيقظ البريطانيون غداة الاستفتاء على وضعية شائكة ناجمة عن ضبابية الموقف السياسي، مردّها غياب التحضير الجيّد لمرحلة ما بعد 23 حزيران/يونيو الماضي تاريخ إجراء هذه الاستشارة الشعبية، لأن النخب السياسية لم تتعامل بالجدية المطلوبة مع إمكانية تصويت غالبية الشعب البريطاني لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وتجد القيادة السياسية الحالية نفسها الآن، مجبرة على التوفيق بين معادلة صعبة تتعلق بالعمل على البقاء في السوق الأوروبية الموحدة من جهة، والسعي في السياق نفسه للحد من الهجرة المتصاعدة القادمة من أوروبا من جهة أخرى؛ الأمر الذي ترفضه بروكسل جملة وتفصيلاً لأنها ترى أنه لا يمكن الفصل ما بين مساري السوق الموحدة وحرية تنقل الأشخاص.
وبالتالي فمن الصعوبة بمكان بالنسبة للحكومة الحالية أن توفّق بين المصالح الاقتصادية التي تدافع عنها النخب البريطانية وبين التيارات الشعبوية التي تمارس ضغوطاً كبيرة من أجل الحد من الهجرة.
ونستطيع القول أن الضباب الكثيف الذي يرخي بظلاله القاتمة على هذا الملف سيظل مهيمنا على المشهد العام في المملكة خلال الشهور القليلة المقبلة، وبخاصة إذا انطلقنا من التصريحات الأخيرة للمسؤولين البريطانيين وفي مقدمهم تيريزا ماي التي عبّرت عن رفضها للثنائية التي تربط بشكل تلقائي وصلب ما بين الهجرة والاقتصاد، مؤكّدة في السياق نفسه أن بريطانيا لم تقرر الخروج من الاتحاد لتترك له صلاحية التحكم في الهجرة الأوروبية نحو المملكة المتحدة، وبالتالي فقد قامت بتشكيل وزارتين جديدتين من أجل متابعة هذا الموضوع، سميت الأولى بوزارة «البريكست» والثانية بوزارة التجارة الخارجية بهدف صياغة استراتيجية قوية وواضحة المعالم قادرة على توجيه دفة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي سيتم الشروع فيها مع نهاية شهر آذار/ مارس من سنة 2017.
هناك في كل الأحوال اعتراف بريطاني واضح بصعوبة المفاوضات، الأمر الذي جعل ماي تسعى إلى ربح قليل من الوقت من أجل مواجهة المستجدات المقبلة على الساحة الأوروبية، لاسيما في فرنسا وألمانيا اللتين تشهدان حراكاً سياسياً كبيراً، كما أن هناك ما يشبه القناعة لدى هذه الحكومة بصعوبة التحكم في تفاصيل نتائج المفاوضات وهي التفاصيل التي من الممكن أن تترتب عليها نتائج سلبية ووخيمة على مستقبل الاقتصاد البريطاني، لأن الشيطان عادة ما يكمن في التفاصيل. وعليه فإن حكومة المحافظين تعمل في المرحلة الراهنة على رسم 3 خطوط حمر تسعى إلى عدم تجاوزها خلال مرحلة المفاوضات، يتعلق الخط الأول بملف الهجرة الذي مثل أحد الأسباب الرئيسية لتصويت الناخبين على البريكست، حيث تجاوز عدد المهاجرين البولنديين إلى المملكة عتبة 830 ألف مهاجر، ووصل معدل الهجرة السنوي من داخل أوروبا نحو المملكة إلى 330 ألف مهاجر في السنة، بينما تسعى الحكومة إلى تقليص هذا العدد إلى بضعة آلاف فقط. أما الخط الثاني فيتصل بالميزانية الأوروبية، حيث تعمل لندن على وقف تدفق أموالها نحو خزانة بروكسل، وبخاصة بعد أن وصل المبلغ الذي دفعته بريطانيا للاتحاد إلى 17.3 مليار جنيه سنة 2015 ، ويتعلق الخط الثالث والأخير بالسيادة القانونية للمملكة، حيث يرفض الناخب البريطاني أن يتدخل الاتحاد الأوروبي من أجل وقف التشريعات القانونية التي تصدرها مؤسساته المنتخبة ديمقراطياً.
ويشير المراقبون إلى أن التحدي الأكبر الذي ستواجهه بريطانيا في مفاوضاتها يرتبط برفض دول شرق أوروبا تقديم تنازلات فيما يتعلق بملف الهجرة وخاصة بولندا وتشيكيا وسلوفاكيا والمجر. كما أن فرنسا تسعى من جهتها إلى تشجيع رجال البنوك والمال في بريطانيا إلى نقل الجزء الأكبر من أعمالهم إلى باريس، ويضاف إلى ذلك وجود رغبة ملحة لدى إسكتلندا في البقاء ضمن دول الاتحاد الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تشجيع الانفصاليين على تنظيم استفتاء جديد من أجل الخروج من المملكة المتحدة.
ويمكن أن نخلص عطفاً على ما سبق إلى القول إن مشوار البريكست الذي دشنته لندن سيكون شديد الصعوبة وربما مؤلماً إلى حد بعيد، لاسيما إذا وضعنا في الحسبان أن 45 في المائة من الصادرات البريطانية تيمم وجهها شطر أسواق دول الاتحاد الأوروبي، في هذه المرحلة التاريخية الفارقة في مسار المملكة المتحدة التي يميزها الضعف المزمن الذي يعانيه حزب العمال المعارض، الأمر الذي يجعل الأصوات المؤيّدة للاتحاد تبدو غير مسموعة، وغير قادرة على مواجهة أصحاب الخيارات الجذرية التي تطالب ببريكست هو أشبه ما يكون بالعملية القيصرية.
نقلا عن / الخيج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة