ويبقى السؤال المحورى هو كيف استفاد «جلال العظم» من مفهوم الشخصية الفهلوية.
فى الحادى عشر من ديسمبر 2016 رحل عن عالمنا فى «برلين» الصديق العزيز المفكر العربى الكبير الدكتور «صادق جلال العظم» أستاذ الفلسفة الذى أغنى المكتبة العربية بكتبه الفلسفية والنقدية،
والمناضل السياسى الجسور الذى وقف بكل شجاعة معارضا النظام الشمولى السورى سواء فى عهد «حافظ الأسد» أو بعد قيام الثورة ضد ابنه «بشار الأسد» الذى يحكم سوريا الآن.
عاد «العظم» بعد ذلك إلى بلاده بعد أن حصل على درجة الدكتوراه فى الفلسفة من جامعة «ييل» الأمريكية ليشغل منصب أستاذ الفلسفة فى جامعة «دمشق» من عام 1977 حتى عام 1999.
وقد برز «العظم» فى السياق الفكرى النقدى العربى على وجه الخصوص بكتابه الرائد فى «النقد الذاتى العربى» الذى أصدره عن دار الطليعة وحلل فيه –مطبقا فى ذلك منهجية التحليل الثقافى- أسباب هزيمة العرب فى حرب يونيو1967. وبالإضافة إلى ذلك أصدر عديدا من الكتب النقدية أبرزها «نقد الفكر الدينى» والذى حوكم هو ومدير دار الطليعة التى نشرت الكتاب بتهم شتى برئ منها فيما بعد، كما أصدر بعد الضجة التى أحدثتها رواية «سلمان رشدى» آيات شيطانية كتابه «ذهنية التحريم» بالإضافة إلى كتابات أخرى نقدية. والحقيقة أن الكتابات العربية عن أسباب الهزيمة تثير مشكلات أخطر كثيرا من مسألة تبنى منهج علمى دقيق للبحث عن أبعادها المختلفة لأنها تعكس مواقف القوى الاجتماعية المختلفة من المد القومى العربى الذى قاده الزعيم «جمال عبد الناصر» بكل ما يتضمنه من نجاحات وإخفاقات..
لقد بدأت بعد انتهاء المعركة العسكرية فى يونيو 1967 ما أطلق عليه بحق الكاتب المصرى «كميل حوا» معركة تفسير الهزيمة والتى هى معركة نظرية وسياسية فى آن واحد. وكان فى مقدمة هذه الحركة كتاب «صادق العظم» «النقد الذاتى الهزيمة».
وترد أهمية كتاب «العظم» إلى أنه دشن مرحلة جديدة فى الفكر العربى هى مرحلة النقد الذاتى. ونحن نعلم أن النقد الذاتى ليس تقليدا عربيا حيث يندر أن يعترف الناس سواء كانوا من النخبة أو الجماهير بأخطائهم، ولكنه –على العكس- فضيلة غربية لأن السياسى أو المفكر أو المثقف بشكل عام لا يجد أى غضاضة فى ممارسة النقد الذاتى.
والواقع أن إرهاصات النقد الذاتى بدأت مبكرا بعد الهزيمة العربية فى حرب فلسطين عام 1948 بكتاب المؤرخ اللبنانى المعروف «قسطنطين ذريق» «معنى النكبة» إلا أنه ظل لفترة طويلة عملا منفرداً.
إلا أن كتاب «النقد الذاتى بعد الهزيمة « قد دشن فى الواقع البداية الحقيقية لتقليد النقد الذاتى العربى بعد هزيمة عام 1967، والدليل على ذلك أنه نشرت فى نفس العام تقريبا كتب فى تفسير الهزيمة من مفكرين ينتمون إلى تيارات أيديولوجية مختلفة أبرزها «النكسة والخطأ» لأديب نصور، و«أعمدة النكبة السبعة» «لصلاح الدين المنجد».
ويبقى السؤال المحورى هو كيف استفاد «جلال العظم» من مفهوم الشخصية الفهلوية الذى سبق أن صكه الدكتور «حامد عمار» فى كتابه «تجارب فى بناء البشر»؟. ولقد حدد عمار السمات الأساسية «للشخصية الفهلوية» كما يلى: أولى هذه السمات هى القدرة على «الكيف السريع» لمختلف المواقف وإدراك ما تتطلبه من استجابات مرغوبة والتصرف وفقا لمقتضياتها إلى الحد الذى يراه مناسبا. غير أنه حرص على أن يؤكد أن هذه القدرة على التكييف السريع تتمثل بجانبين متلازمين أحدهما المرونة والفطنة والقابلية للهضم والتمثل للجديد، والآخر هو المسايرة السطحية والمجاملة العابرة التى يقصد منها تغطية المواقف وتورية المشاعر الحقيقية مما لا يعنى الارتباط الحقيقى بما يقوله المرء، أو بما قد يقوم به مظاهر سلوكية، والسمة الثانية هى النكتة المواتية، والسمة الثالثة هى المبالغة فى تأكيد الذات والميل الملح إلى إظهار القدرة الفائقة والتحكم فى الأمور، والسمة الرابعة هى الطمأنينة إلى العمل الفردى وإيثاره على العمل الجماعى، والسمة الخامسة هى سيادة الرغبة فى الوصول إلى الهدف بأقصر الطرق وأسرعها وعدم الاعتراف بالمسالك الطبيعية.
(أنظر فى تفصيلات الموضوع كتابنا «الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر- (القاهرة: الطبعة الخامسة عام 2016، الهيئة العامة للكتاب.)
غير أن «العظم». وإن كان يتبنى مفهوم الشخصية الفلهوية- كانت له تحفظات شتى على استخدام المفهوم فى تفسير أسباب هزيمة 1967. يرى العظم أن الخصال الفهلوية التقليدية «تجعلنا عاجزين عن تقبل الحقيقة والواقع، وفقا لما تفرضه الظروف الحرجة من تصرف سريع، وتضطرنا لإخفاء العيوب والفشل والنقائص بغية إنقاذ المظاهر والحفاظ على ماء الوجه.
ومن ناحية أخرى، يرى العظم أنه إذا كانت من سمات الشخصية الفهلوية نزوعها إلى الحماس المفاجئ والإقدام العنيف والاستهانة بالصعاب فى أول الطريق، ثم انطفاء وفتور الهمة عندما يتبين «للفهلوى» أن الأمر يستدعى المثابرة والجلد والعمل المنتظم الذى لا تظهر نتائجه إلا ببطء وعلى شكل تراكمى.
ويربط «العظم» بين سمة أخرى من سمات الشخصية الفهلوية وبين سلوك العرب قبل الحرب، ونعنى السمة الخاصة بالمغالاة فى تأكيد الذات، والميل الملح لإظهار القدرة الفائقة فى التحكم والأمور. فقد لوحظ ميل العرب «إلى الاستهتار بقوة العدو وطاقاته والاستخفاف به وتأكيد النفس، هذه النفس غير المطمئنة إلى وضعها فى أعماقها، عن طريق الادعاءات الرنانة والتقيد بالمظاهر الخارجية والشكليات ثم ينتقل العظم إلى ربط الشعور الحقيقى بالنقص تجاه الآخرين الذى تنطوى عليه الشخصية الفهلوية، هذا الشعور الذى لا تستطيع البوح به لأنها تتمسك بقيم الحياء والخوف من الفضيحة أكثر مما تتمسك بالواقعية والموضوعية وبضرورة الاعتراف الصريح بالنقص لمعالجته والتغلب عليه، وبين نمط العلاقات بين الدول العربية. فهذه العلاقات –فيما يراه- تتصف بالمسايرة السطحية والمجاملة العابرة، التى يعتمد منها. ويثير العظم مسألة مهمة مبناها كيف تتصرف الشخصية الفهلوية حين تجد نفسها فى مأزق حرج؟ أن هذه الشخصية إذا وجدت نفسها فى مأزق «سيفضح حتما عجزها وتقصيرها تبرع فى إزاحة المسئولية عن نفسها وإسقاطها على قوى خارجية يمكن عن طريقها تبرير النتائج السلبية التى جاءت على يدها.
والشخصية الفهلوية –فى نظر العظم- تزدهر فى المجتمعات التى ترتكز فى سلوكها نظراتها على نمط الحياة التقليدى الاتباعى، حيث تتوجه أنظار الأفراد وأفكارهم وردود فعلهم نحو التقاليد العريقة والمدن السلفية والمتوارثة مما يجعل الفرد فى مثل هذه المجتمعات إنساناً محافظا عقلا وجسداً، يدور دوما فى فلك محدود وهو فلك اتباعى يبقى القديم على قدمه، ويحافظ عليه لينقله إلى أبنائه.
هكذا حاول صادق جلال العظم الربط بذكاء بين سمات الشخصية الفهلوية –كما سبق أن حددها «حامد عمار» - وبين السلوك العربى قبيل المعركة وفى أثنائها وبعدها.
كان كتاب «النقد الذاتى بعد الهزيمة» هو بداية معرفتى الشخصية «بالعظم» والتى تحولت من بعد إلى صداقة ممتدة.
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة