بدأ آبيل غانس حياته، رجل أدب ومسرح وشعر، ثم شرع في كتابة العديد من السيناريوات مع السنوات الأولى لولادة فن السينما الروائية.
على عكس ما قد يعتقد الذين يقرأون عن فيلم «إني أتهم» لآبيل غانس، من دون أن يشاهدوه، لا علاقة لهذا الفيلم الذي حقق وعرض عامي 1918 و1919 على التوالي، بنص إميل زولا الشهير عن قضية ودرايفوس. لقد استعار عنوانه فقط، مستفيداً من شهرته على الأرجح. مهما يكن، فإن فيلم غانس كان في زمنه أوسع شهرة من نصّ زولا، وصنع لصاحبه سمعة عالمية، لا سيما حين عُرض، وهو الفيلم الصامت، في لندن بمصاحبة أوركسترا من عشرين عازفاً، ونال ردود فعل مدهشة جعلت مندوب الشركة المنتجة «باتيه» في العاصمة البريطانية يبرق للمخرج معلناً له أن شهرته باتت أوسع من شهرة غريفيت في بلاد الإنكليز. والحقيقة أن «إني أتهم» كان يستحق ذلك الاستقبال، أولاً لجودته الفنية وقيمته التعبيرية، وثانياً لكونه أتى فيلماً مسالماً يتناغم مع المناخ الأوروبي العام الذي كانت أهوال الحرب (العالمية الأولى) قد جعلته يكفر بكل الحروب.
> يدور الفيلم في قرية ريفية فرنسية تحمّس أبناؤها للحرب حين اندلعت مع ألمانيا عام 1914، وراحوا يتطوعون في الجندية، وكان من بينهم لوران، الرجل الغيور حاد الطباع، الذي لفرط خوفه من غدر زوجته إديث به، طلب منها أن تذهب كي تعيش مع أهله في مقاطعة اللورين، وقصده إبعادها من القرية حيث يعيش، مع أمه، الشاعر جان الذي يشتبه فرنسوا بوجود غزل بينه وبين إديث. لكن الرياح تجري، كالعادة، كما لا تشتهي السفن. فإديث تُغتصب في اللورين على يد جنود ألمان، لتحمل وتنجب طفلة لاحقاً، فيما جان يلتحق بالجبهة. وهو هناك ينضم الى فرنسوا حيث بعد شبهات ونفور، يصبحان صديقين. وفي عام 1918 إذ يسرّح جان لأسباب صحية، يعود الى القرية ليجد أن أمه قد ماتت، وأن إديث عادت بعدما كانت أسيرة الألمان وعلى كتفها طفلتها أنجيل. ولاحقاً حين يعود فرنسوا الى القرية في إجازة، يشتبه بأن جان هو والد الطفلة ويتقاتل معه بعنف. لكن حين تنكشف الحقيقة يسعى فرنسوا وجان الى العودة الى الجبهة سوية كي يثأرا من الألمان معاً. وهناك خلال المعركة، يُصاب فرنسوا ليموت في المستشفى، فيما يصبح جان نصف مجنون تطالعه ذات لحظة رؤية تتمثل في قيام الجنود الفرنسيين الموتى من قبورهم سائرين معاً الى بيوتهم في القرية. وفي القرية، يلقي جان خطبة في السكان يسألهم فيها عما إذا كانوا حقاً يستحقون التضحيات التي قام بها السكان من أجلهم... فيما هم يتفرجون برعب على الموتى من أهلهم وأصدقائهم عبر رؤيا جان... وينتهي الفيلم على هذا الأخير يعود الى بيته ويمزق أوراقه وقصائده... ما عدا واحدة عنوانها «نشيد الى الشمس» يقرأها وهو يندد بالشمس لكونها متواطئة في الحرب. حيث بالنسبة إليه وبسبب كراهيته للحرب التي أفقدته كل ما كان يحبه في هذا العالم، لا سيما سنوات شبابه، كان كل شيء متواطئاً لقيامها، فقط كمقتلة للإنسان والإنسانية لا جدوى منها على الإطلاق. إذ إن تلك الحرب كشفت له ليس حقيقتها بل حقيقة كل حرب وكل الحروب على الإطلاق.
> هذا الفيلم الذي كتبه آبيل غانس بنفسه مستلهماً فيه، بخاصة، رواية «النار» لهنري باربوس المعبّرة خير تعبير في ذلك الحين عن كراهية الحرب والتوق الى السلام، كان الأساس الذي بنى عليه شهرته، هو الذي عاش حتى قارب المئة عام من عمره واعتُبر خلال نصف القرن الأخير من حياته واحداً من كبار المخرجين الذين صنعوا للسينما الفرنسية مجدها، لكن في تلك الفترة نفسها، وسط موجة التكريم والتبجيل، لم يتمكن آبيل غانس من أن يحقق ولو فيلماً قصيراً، وهو الذي أعطى السينما الفرنسية فيلمين كبيرين لا تزال حتى اليوم تفتخر بهما، «العجلة» (1921) و»نابوليون» (1927)، إضافة الى ذلك الفيلم السياسي المدهش «إني أتهم».
> والحال أن المأساة التي عاشها آبيل غانس تكشف عن الأوليات القاسية لهذا الفن الذي كان فن القرن العشرين من دون منازع، لكنه كان واحداً من أكثر الفنون التي لم تتوقف يوماً عن قهر فنانيها وإحباطهم. فالفن السينمائي كان - على الدوام - الفن الذي خلف من المآسي ما لم يخلفه أي فن آخر، بحيث أن السينمائيين عاشوا أحلامهم وخيبة أحلامهم أكثر مما عاشوا لحظات مجد حقيقية، بل يقال دائماً أن وصول فنان السينما الى أعلى درجات المجد، ما هو إلا الإشارة التي لا تخطئ الى أن العد العكسي قد بدأ بالنسبة إليه.
> طوال خمسين سنة سبقت رحيله عن عالمنا (عام 1981)، كان آبيل غانس رجل متحف من الطراز الأول: يكرّم وتقام المهرجانات باسمه، وتؤلف عنه عشرات الكتب والدراسات، من دون أن يجرؤ أي منتج على المراهنة بقرش عليه. وهذا ما جعل كثيرين يعتقدونه ميتاً منذ زمن بعيد، حين وصلهم نبأ رحيله.
> بدأ آبيل غانس حياته، رجل أدب ومسرح وشعر، ثم شرع في كتابة العديد من السيناريوات مع السنوات الأولى لولادة فن السينما الروائية، بعد ذلك وخلال الفترة بين 1911 و1915، بدأ يُخرج سيناريواته بنفسه وتجلّت موهبته السينمائية باكراً، حيث اعتبر الى جانب جورج ميلياس، المؤسس الحقيقي للسينما التخييلية في فرنسا. وهو بعد سلسلة من الأفلام القصيرة وأفلام الحرب، وبعد أن كان من أوائل مبتكري اللقطة المكبرة ذات البعد النفساني في السينما، أتيح له في 1917 أن يحقق أفلامه الدرامية الكبيرة الأولى مثل «ماتر دولوروزا» (1917) و»السيمفونية العاشرة» (1918) ثم «إني أتهم» (1919) الفيلم الذي إذ أتى أشبه بدعوة حقيقية ضد الحرب، أثار ضده نقمة العديد من الأوساط القومية. وهو في عام 1921، بدأ تحقيق فيلم «العجلة» الذي يمكن اعتباره أول فيلم مناظر للبيئة في تاريخ السينما، حيث رسم التعارض بين الآلة بشتى تجلياتها، وبين الطبيعة الساحرة والهادئة. كان هذا الفيلم أشبه بـ «سيمفونية بيضاء».
> منذ البداية، انطبعت سينما آبيل غانس بقدر كبير من الشاعرية وقدر أكبر من الابتكار، حيث كان في كل فيلم من أفلامه كأنه يخترع السينما مجدداً، وقد قاده هذا الى أن يحقق في 1927 فيلمه الأكبر والأهم «نابوليون» الذي كان، بحق، واحداً من أكبر الاستعراضات في تاريخ السينما. وكان أول لقاء حقيقي بين السينما والتاريخ، بخاصة أن غانس حرص على أن يجدد في أسلوب العرض، حيث استخدم طريقة الشاشات الثلاث، ما جعل فيلمه عصياً على العرض، لكن مفاجئاً في الوقت نفسه. وحتى اليوم، لا يزال «نابوليون» يعتبر تحفة كبرى من تحف الفن السابع، ولا تزال الذاكرة تتذكر مناسبات عرضه، خصوصاً أن مخرجه لم يتركه بعد ذلك، حيث رأيناه وقد أضاف إليه الصوت في عام 1934 ثم أحدث فيه تعديلات جوهرية في 1971، لكن دائماً من دون أن يجري أي تبديل جذري فيه.
> كان فيلم «نابوليون» لحظة المجد الكبرى في حياة آبيل غانس، إلا أنه كان أيضاً لحظة إعلان الغروب لمساره المهني، حيث نراه بعده يحقق بعض الأفلام ويعيد ضبط أفلام قديمة له من دون أن يرقى الى لحظة المجد التي بلغها بفيلمه الكبير ذاك. مهما يكن، فإن المنتجين وأصحاب السلطة في اللعبة السينمائية ظلوا بعيدين على الدوام من الاهتمام بآبيل غانس وبابتكاراته السينمائية، كما أن الجمهور نفسه لم يتابع أفلامه التالية مثل «غرام بيتهوفن» (1937) أو «لوكريس بورجيا»، أو «الفردوس المفقود» أو «فينوس العمياء» (1940). وهكذا راح آبيل غانس يخلد الى صمت يطول أكثر وأكثر، حتى استراح نهائياً منذ أواسط الخمسينات مكتفياً بتكريمه ووضعه في المتاحف لتستعاد ذكراه وعروض أفلامه القديمة بين الحين والآخر لا أكثر ولا أقل. وعندما رحل غانس عن عالمنا، كان أضحى شبه منسي، لكن بعد موته عاد النقاد (الإنكليز بخاصة) لاكتشافه واكتشاف أعماله فأعادوا إليه مجداً، لكن بعد فوات الأوان بالطبع.
* نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة